كما أسراب الطيور يتلو بعضها بعضا في فضائها الرحب، وتهاجر من عالم إلى آخر، أو تعود أدراجها إلى حيث دبت فيها روح الحياة.. كذلك هم الناس، قائد يشق الدرب بمبادرة، دون أن يتردد، التجربة والخبرة ترسمان له معالم الطريق.. وآخر متابع يقظ، أو مقلد مستسلم، أو محب داع بإحسان، أو عاجز متفرج .. أو واقف على الضفة الأخرى يسفه ويفند، فإن لاحت بوادر إخفاق جهر، وإن وجد رياح النصر قائمة توارى واختفى من المشهد. أعظم قيادة هي الأخذ بالنفس نحو المصداقية والتوافق بين القناعات الذاتية، والمسالك العملية. وشر ما يبتلى به المرء، والقائد خاصة، ازدواجية المعايير بين ما يؤمن به في دخيلته وما يفعله في مواقفه، بين ما يريده من الناس، وما يريده من نفسه (أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون)؟ (البقرة:44) القائد صاحب مبادرة، يقرأ الفرصة إذا لاحت، ولو من بعيد، ويلتقط الإشارة بعناية، ويستجيب لمقترحات التاريخ الجادة بشجاعة. في مسند الإمام أحمد، في قصة عرض النبي صلى الله عليه وسلم الإسلام على «ذي الجوشن الضبابي» قال له النبي صلى الله عليه وسلم : «ألا تسلم، فتكون من أول هذا الأمر» يقول: قلت: لا، قال : «لم ؟» قلت: إني رأيت قومك قد ولعوا بك، قال: «فكيف بلغك عن مصارعهم ببدر؟» قال: قلت: بلغني، قال: قلت: أن تغلب على مكة وتقطنها، قال : «لعلك إن عشت أن ترى ذلك» قال: ثم قال: «يا بلال، خذ حقيبة الرحل فزوده من العجوة». فلما أن أدبرت، قال: «أما إنه من خير بني عامر» قال: فو الله إني لبأهلي بالغور إذ أقبل راكب فقلت: من أين؟ قال: من مكة، فقلت: ما فعل الناس؟ قال: قد غلب عليها محمد صلى الله عليه وسلم، قال: قلت: هبلتني أمي، فو الله لو أسلم يومئذ، ثم أسأله الحيرة لأقطعنيها. المبادرة نجاح للسياسي حين يقرأ اتجاه رياح التغيير، فيعدل البوصلة، ويعلم أن ما كان بالأمس ممكنا ليس كذلك هو اليوم، وعوضا عن مواجهة الرياح الربانية التي تأتي بالمطر والخير، وتلقح السحاب والنبات، يستحيب لها ويمضي مع سنتها، لئلا تتحول إلى «ريح فيها عذاب أليم * تدمر كل شيء بأمر ربها» (الأحقاف: من الآية 25،24). والمبادرة نجاح الثروة التي تحول المصائب إلى منن، وتجعل من إخفاقات الآخرين وصراعاتهم ومشكلاتهم سببا إلى المزيد من المكاسب والقفزات. التحية حين تلقيها مغاضبا على أخيك وخصمك لتفوز فيها بالمنصب الأسمى، منصب «الخيرية» حين تفوقت على ذاتك وتجرعت مرارة القهر والعدوان؛ لتقيم بناء الحب والسلام «وخيرهما الذى يبدأ بالسلام»، فأين من هذا من يصنع الحرب والقتل والدمار للمسالمين، ليس لشيء سوى أنهم قالوا: لا، بعد صبر السنين. قبلة على رأس زوج، حكمته كبرياء الرجولة، وظن نفسه بمقام الصواب، لا يكاد يرى لشريكته حقا سوى اللهاث وراءه، والصمت على عثراته، والانضباط الصارم، وتدور عجلة الحياة على ذلك طويلا طويلا .. وتمر الأيام والشهور والسنوات، لتبني جدرا من التراكم النفسي الثقيل الذي يصعب هدمه أو تجاوزه إلا بقوة نفسية خارقة «وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم» (فصلت:35) ، وما كل الرجال كرجلها! اكتساب المعلومة المتألقة تزف لأول مرة، أو الخبرة الجديدة تزخر بها تجارب الحياة، وهي مبادرة لا تحدث إلا حينما نتسامى عن الإحساس الموهوم بالكمال، ونستحضر أبدا الثناء الجميل على منهومين لا يشبعان: طالب العلم وطالب المال! نعرف الثاني جيدا، فهل نحاول أن نكون في المقام الأول؟ مبادرة الكلمة الجديدة تنقدح في الذهن، وتضاف إلى رصيد الحكمة البشرية، فضلا عن الأنبياء المؤيدين بالوحي، كان المستبصرون ينطقون بالصواب العابر للقرون على غرار حكمة عمر «نفر من قدر الله إلى قدر الله». أو كلمة الشافعي: «ليس من أراد الحق فأخطأه، كمن أراد الباطل فأصابه». لون رائع من المبادرات القولية يحل مشكلة معرفية، أو يفكك اشتباكا ميدانيا بين المتخاصمين. فتح الذرائع والأسباب لمزيد من جماليات الحياة، أو متاعها المباح، أو نجاحاتها التقنية، أو مشاركاتها الإعلامية، أو ميادينها الدعوية. السنة الحسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها، والدعوة إلى هدى، فله من الأجر مثل أجور من تبعه، الفعل وليس الوعد، أو إن شئت فقل: الفعل والوعد معا، ربما الوقت لا يتسع لكل ما تحلم، فلتضف المستقبل إلى الحاضر إذا! حين تتأمل: «وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين» (آل عمران:133) ، إلى جوار: («سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض أعدت للذين آمنوا بالله ورسله ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم» (الحديد:21)، تجد أن المسارعة شيء يخص الذات، لعدم التأخير أو الإبطاء والتسويف، وكان من السلف من يقول: «أنذرتكم: سوف»! هي مبادرة واستباق للوقت، وليست عجلة أو طيشا، والمسابقة منازلة مع الآخرين «وفي ذلك فليتنافس المتنافسون» (المطففين: من الآية26). ميدان الحياة وطريقها اللاحب يتسع لكل العاملين، ولكل امرئ طريقه الخاص الذي لا يتقاطع مع سواه، وعليه ألا يجعل حظه من الحياة تعثير الآخرين وقطع طريقهم! لكل يوم عمله، وحين تعجز عن عمل يومك، فأنت غدا أعجز من أن تؤدي عمل يومين معا! وإذا هممت بأمر شر فاتئد وإذا هممت بأمر خير فافعل وإذا تشاجر في فؤادك مرة أمران فاعمد للأعف الأجمل قرار مدروس يتجاوز فرط المخاوف، واعتياد التردد، والشك في النتائج، والجزع من المعاتبات والتهم، إلى فضاء الإبداع والعمل الرائد، مع تعمد السبق والإصرار والترصد! مهمة نادرة لأشخاص نادرين «قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين» (المائدة:23) رجلان فحسب! حتى إضافة مفردة جديدة إلى قاموسك اللغوي، متألقة في جماليتها، رائعة في وقعها، عميقة في دلالتها، على أنها لم تكن من عادتك، ولم يسمعها منك الناس، تبدو مبادرة حسنة تحتاج إلى استجماع القوة، وتأكيد القصد. الناس من حولك ينظرون ويعجبون، أو ينتقدون، هذا عائق اجتماعي، لبيئات لا تحفز على المبادرة، ونبالغ في تضخيم احتمالية الخطأ والتحذير من مغبة العواقب الوخيمة، حتى يصبح النمط الفاضل هو الجاري على عوائد الأمور دون إضافة ولا تجديد، وتصبح الشجاعة الحقة هي شجاعة الرفض والامتناع! «والسلامة لا يعدلها شيء»! حين تمتلك التفريق بين التهور والطيش، وبين المبادرة الواعية، فيحق لك أن تردد مع الشاعر قوله: إذا هم ألقى بين عينيه عزمه وأعرض عن ذكر العواقب جانبا ولم يستشر في رأيه غير نفسه ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا سأغسل عني العار بالسيف جالبا علي قضاء الله ما كان جالبا ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت يميني بإدراك الذي كنت طالبا في الصغر نتعلم في المدرسة، وحين نكبر يجب أن تصبح الحياة كلها مدرسة، والناس فيها كلهم معلمون، لا نأنف من التلقي عنهم، والتتلمذ على أيديهم، بمحاكاة نجاحاتهم، أو تجنب إخفاقهم. الدرس الصعب الذي خرجت منه سالما هو سر النجاح الذي حصلت عليه بعد ذلك، لقد وفر لك الخبرة، ولا نجاح بدون خبرة، ولا خبرة بدون تجربة، ولا تجربة بدون إخفاق. المال جزء من المبادرة، فهو قرين الوقت والجهد، فلتكن الذي يوفر بعض وجبته لمشروعه. علمتني التجارب أن مشاريع ينفق عليها الكبار ببذخ تنتهي إلى منافسات ومصالح ذاتية، ومشاريع يجمع لها القليل مع القليل بجهد جهيد لتبدو عظيمة الأثر، المال معتبر فيها ولكن أهم منه الطاقات الروحية العالية التي نذرت نفسها لتكون زيتا لذلك السراج.