انباؤكم - د . ناصر بن عبدالرحمن بن ناصر الحمد الحمدلله أما بعد : فإن التاريخ مليء بزحمة من الاعتراض والردود والخلاف والنقاش والصدود والسدود . إنها سنة (ولا يزالون مختلفين ) ,وليس عيبا أو غريبا أن نختلف فالاختلاف حصل في أحسن العصور وأزكاها وفي أفضل الأزمنة وأطهرها وأنقاها لكن أصفياء الخلق ممن نهلوا من مشكاة النبوة لم يكن اختلافهم سببا لإثارة الشحناء والبغضاء واستمرار ذلك ,ولم يكن اختلافهم طريقا لإسقاط بعضهم ولا لعداوتهم ولا لملاحقتهم وتبيين عوارهم بل كان هممهم الأكبر بيان الحق وهداية الناس ولاغروحينئذٍ إن رأيتهم شامة في التاريخ لايشق لهم غبار ولايعرف عنهم خيار ,غير أنه كلما ابتعد الناس عن منهج السلف وارتضوا منهج الخلف حلت عليهم المثلات وتواردت عليهم العقوبات (فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) . كثيرا ما يتخذ بعض من قل إيمانه وصعُب أمانه أساليب وتصرفات للتنفير عن من يخالفه أو لا يرى ما يراه حتى إنه ليتخذ عداوة نظيره من صميم العقيدة وكلمة الحق فيحصل بعد ذلك اتخاذ الأساليب الفاسدة والأفعال الكاسدة وما حرم الله تعالى من التجسس وتتبع العورات وترك الإعذار والبحث عن موارد النقد والشتم بحق أو غير حق . ولعل أشد ذلك في تمزيق اللحمة وتهتيك الصف وتفريق الكلمة محاولة الدخول في النيات واستعمال سوء الظن طريقا لفهم الناس وقد جاء في الصحيح ( إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ) فالظن السيء بلاء وعنوان داء ووباء ومتى ما استحكم لدى النفوس السقيمة زاد في أمراضها ومزق في أعراضها وجعلها حسيرة كسيرة فهي كلَّ حين تريد أن تشفي عِيَّها فتتناول مايزيدها عيَّها إلى عيِّ . ولعل من أعظم سوء الظن رمي العلماء والمصلحين وعامة المسلمين بالمداهنة للحكام أو من لهم ولاية على المسلمين . فإذا رأيت احدهم تكلَّم ديانة لرب العالمين وقطعاً لموارد المتربصين على بلاد المسلمين وذاكراً للحق المبين ولو خالفه جميع العالمين رأيت الذي في قلبه مرض يتعامى عن إحسان الظن وحمل المحمل الحسن . ولاريب أنَّ الدخول في القلوب افتيات على علَّام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى ولايعلم مافي الغيب إلا هو , كيف وقد أمرنا أن نعامل الناس بالظاهر ونكلُ السرائر إليه سبحانه فيحكم بها يوم تبلى السرائروهو أعلم بحال أهلها, ولاشك أنَّ أكثر النفوس التي اعتادت على سوء الظن نفوس أعماها الهوى عن قول العدل فعدلوا عنه إلى العذل وبذلوا لذلك كل البذل بشتيمة وسب وطعن وتجريح وتفسيق وغيره فلا جرم إن رأيت من امتلأ في قلبه الشر أن يقذف الشر . قال الإمام الغزالي في رحمه الله (فيجب الاحتراز عن ظن السوء وعن تهمة الأشرار فإن الأشرار لا يظنون بالناس كلهم إلا الشر فمهما رأيت إنسانا يسيء الظن بالناس طالبا للعيوب فاعلم أنه خبيث الباطن وأن ذلك خبثه يترشح منه وإنما رأى غيره من حيث هو فإن المؤمن يطلب المعاذير والمنافق يطلب العيوب والمؤمن سليم الصدر في حق كافة الخلق) إحياء علوم الدين ج3 ص36 قال المتنبي : إذا ساء فعل المرء ساءت ظنونه *** وصدق ما يعتاده من توهُّم إن التجرأ على رمي الناس كبارهم وصغارهم بالمداهنة معناه : رميهم بتقديم طاعة المخلوق على كلام الخالق ورميهم بالتقول على الله بغير حق والعلماء خاصة موقعون عن رب العالمين فكيف يتَّهمون بتزوير الحق والقول على الله بغير حق ورميهم بذلك بغير بينة ولاهدى ولا كتاب منير! لقد تبين لكل ذي عينين بصيرتين أن لزوم غرز العلماء الكبار وما يتعلقون به من النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وخاصة في أزمنة الفتن والمحن هو الحل في معضلات الدهر وهو النجاة في أوقات القهر لأن العلم من دون الحكمة لاشيء والحكمة من دون العلم لاشيء فإذا اجتمعت التجربة مع العلم كان في ذلك الفلاح والنجاح (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ) لقد لحق كثيرون بركب علماء ليسوا بكبار وتعلقوا بهم في أزمنة غابرة وأزمنة حاضرة فتغير تعلقهم ذاك وحار عليهم بل رأوا ما هالهم ذلك أنهم اتبعوا من كان يشفي نفوسهم ويلئم جروحهم في وقت ساعة حاضرة ونسوا ماينتظرهم من زحمة الأحداث في المستقبل . حتى إذا ترك مشايخهم الفضلاء ما هم عليه بعد ما تبين لهم الحق وتذكروا نصح الكبار تراهم بعد ذلك تركوا الكبر والإصرار ورأيت أتباعهم في مهمه الحسرة جاثمين وفي أليم الحسرة نادبين وكم من عاض لأصابع الندم قد اتبع فلاناً وفلاناً حتى قال ليتني لم أتخذ ذاك الشيخ دليلا ولا خليلا. سترى آخرين أعماهم الظلم والقهر والفساد والضلال فأرسلوا شآبيب المقت والسخط والتقبيح لمن خالفهم ونصر ظالمهم فرموهم بالمداهنة والمماحلة والممايلة للظلمة فدخلوا نيات العالمين ولمزوا العلماء المصلحين والدعاة العاملين والهداة الباذلين بما ليس لهم بحق وما مثلهم إلا كمثل رجل باع الآخرة بالدنيا يسب هذا وينتقص ذاك . ولاشك أنَّ الحكمة والتريث والحلم والصبر وعدم التعجل لايكون إلا في الأزمات وإلا فما فائدته وجدواه ؟ ذكرى .... في صلح الحديبية والذي ظاهرة فيه دنية للمسلمين وذلة لهم لما فيه من البنود الجائرة الظالمة فلما رآها عمر الفاروق رضي الله عنه كان مستنكرا لها بل وكان مع رأيه أكثر الصحابة رضي الله عنهم حيث كانوا مستعدين لأداء العمرة حينها وثب عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، فأتى أبا بكر رضي الله تعالى عنه ، فقال : يا أبا بكر ، أليس برسول الله ؟ قال : بلى ، قال : أو لسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى ؛ قال : أو ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى ؛ قال : فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟ قال أبو بكر : يا عمر ، الزم غرزه ، فأني أشهد أنه رسول الله ؛ قال عمر : وأنا أشهد أنه رسول الله ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ألست برسول الله ؟ قال : بلى ؛ قال : أو لسنا بالمسلمين ؟ قال : بلى ؛ قال : أو ليسوا بالمشركين ؟ قال : بلى ؛ قال : فعلام نعطى الدنية في ديننا ؟ قال : أنا عبد الله ورسوله ، لن أخالف أمره ، ولن يضيعني قال : فكان عمر يقول : ما زلت أتصدق وأصوم وأصلي وأعتق ، من الذي صنعت يومئذ مخافة كلامي الذي تكلمت به ، حتى رجوت أن يكون خيرا فكان يوم الصلح هو يوم بدايات الفتح العظيم على المسلمين وأردت من استشهادي هذا أنَّ ثمّة أموراً يفقهها الكبار في الأحداث وقد لايفقهها من كان دونهم في السن من العلماء وذلك بسبب ما مرَّ على الكبار من أمور في حياتهم قد لا يفقهها من هو أعلم منهم لكنه أصغر سناً فإننا لا ننكر أن هناك من صغار الناس من هو أعلم وأكثر فقها من الكبار لكن ليست القضية في العلم بل في تنزيل العلم على الأحداث والوقائع ومتى ننزلها عليه ومتى لاننزلها وهذه القضية أكثر من يفقهها هم الذين سبروا أغوار الدنيا وأحداثها وقد يُفهمُّها الله تعالى من كان سنه صغيرا وقليلٌ ما هم !! ولذا فقد صدق القول في أزمنة الفتن : الزموا غرز العلماء الكبار ولا يطلبنكم الله من ذمته بشيء .