بعضُ الناس سجين أبسط المسلّمات. يقول الإنجليز إذا أرادوا الحث على التفكير الخلاق: فكّر خارج الصندوق. انتقل هذا المثل إلينا. تصادفه في كثير من المقالات حتى في مقالات حراس الصندوق وسدنته. أخذنا هذا المثل دون شرحه أو تفسير دلالته. كل إنسان مهما كان مستوى وعيه يعيش بصورة أو أخرى داخل مجموعة من القوانين والأيمانات والمصالح. تشكّل هذه المنظومة غرفة مظلمة تشلّ التفكير الخلاق. لكن هذا ليس على إطلاقه. القوانين والأنظمة والمصالح ليست دائما رديئة. لها دور كبير في تنظيم حياة الناس وربطهم ببعض، ولولا توفرها لسادت الفوضى. مثل الروتين. كثير من الناس يعتقد أن الروتين الإداري عامل سلبي دائماً. هذا غير صحيح. لكن علينا الحذر من الأيمانات الصادقة والأيمانات الزائفة. الأيمانات هي أشد محتويات الصندوق قيداً.لأنها تولد أيمانات فرعية ثم تتصلب الفرعية فتولد فرعية جديدة مثل الشجرة التي لا تتبين أطرافها، وأي شيء يتعلق فيها يصبح من المسلّمات, خصوصا إذا تم تلقيها في الطفولة,. أشعر بالامتنان الكبير للتعليقات على المقالات المنشورة في الصحف. أقرأ التعليقات أكثر مما أقرأ المقالات نفسها. مرة كتبتُ مقالا عن الأسد. كشفت فيه للقارئ أن الأسد ماعندك أحد. لا يستحق السمعة التي صاحبته على مر السنين وحولته إلى رمز للشجاعة والامبراطورية. مجرد رأي هو أقرب إلى المتعة منه إلى الجدية. لكن هذا لم يشفع لي أمام حراس الصندوق. انقضوا عليّ تجهيلا وتسفيها وركلًا بالكلام. تربوا منذ طفولتهم على أن الأسد ملك الغابة. اقترن اسمه بكثير من الأساطير. انتزاع أسطورة يؤدي إلى انكشاف الأسطورة التي تليها وتعرضها هي الأخرى للانتزاع أيضا. لا يعرف حارس الصندوق أين سيقف ابن بخيت وأمثاله في انتزاع الأساطير، وما هي الأسطورة التي يحفرون للوصول إليها. منطق يصعب دحضه. قبل سنوات نشرتُ في مجلة اليمامة قصة قصيرة تدور حول الجن. أسطورة البيوت المهجورة المسكونة. قصة لا تتضمن عبرة ولا نصيحة ولا حتى رسالة قصيرة. كتبتها على خلفية الخرافات الشعبية من أجل المتعة فقط. ما كان هناك شيء اسمه تعليقات. اتصل بي أحد القراء لا أعرفه ولا يعرفني وقال بكل حماسة: شلت يمينك. ثم زاد وزبد الغضب الخارج من فمه يكاد يطرطش على أذني: تسخر من الجن. ثم انطلق يقدم لي محاضرة عن إخواننا الجن وحقوقهم، وأن بينهم مسلمين موحدين. فقلت له: يا أخي أنا كتبتُ عن المرور وكتبت عن الجوازات، وكتبت عن الأمريكان فلماذا لم تدافع عن إخوانك الإنس قبل أن تنبري وتدافع عن الجن؟ غصنا في الجدل أكثر فاكتشفت أن الرجل مرعوب وخائف علي. كان يتخيل اللحظة التي يسقطون فيني. شعرت أن الرجل طيب ولكنه مثخن بالأسطورة. فقلت له مازحاً لأخفف من غلوائه: لا تخاف علي يا أخي أنا عندي حصانة من الجن. مقري علي مزبوط. عندي إذن أخبط العواير في صفرة المغرب، وأكب ماء حار في الصهروج ، وأرجم القطاوة، ومؤخرا أخذت إذن بالكتابة عنهم ونقدهم. لعله شعر بأن لا أمل في إنقاذي فقطع الاتصال لكي لا يدخلون فيه بجريرتي. ترى ما هي الطريقة التي تشجع أمثال هذا الرجل على التفكير خارج الصندوق؟! تلك هي المسألة..