ما إن اضطربت الأوضاع في ليبيا وسادتها الفوضى حتى انفرجت في وجهه، إذ انفتحت أبواب السجن وخرج بعد حوالي عقد أمضاه وراء قضبان "العقيد"، من غير ذنب ارتكبه سوى أنه كان مخلصا لمهنته وإبداعه. التقيت الصحفي والشاعر السوري عبدالرحمن مطر منذ أسبوعين خلال زيارة خاطفة إلى الرقة في سوريا، لكن اللقاء مرّ بسرعة البرق، ولم يسعفني الوقت بلقاء ثان لاستكمال بقية الحديث، وسماع ما لم يحدثني عنه من حكايات سجنه في معتقلات "القذافي" الذي اهتزّت أركانه وتمردت بلاده عليه. أجمل ما في عبدالرحمن أنه شاهد حيّ على طريقة تعامل النظام الليبي مع النخب المثقفة التي لا تصفق له ولا تؤدي فروض الطاعة والولاء. ولا فرق لدى النظام بين مثقف قادم من خارج البلاد وآخر من أبناء البلد، فالكل في الحال سواء.. ليظل القمع سيد الموقف. ولعلّ المأساة التي عاشها المثقف السجين عبدالرحمن مطر، تشكل مادة خصبة للكتابة.. بدءا من لحظة اعتقاله لأنه كتب ما لم يعجب "العقيد" والاستخبارات.. وابتعاده مرغما عن زوجته وأبنائه في بلد غريب، واضطرارهم للعيش من غير معيل واعتمادهم على أهل الخير والأقارب من أجل استمرارهم بالحياة على أمل وجود فرجٍ ذات يوم. أما كتاباته فقد كان يهرّبها كأنها "ممنوعات" إلى خارج السجن، حاملا في داخله طموحا بأن يحولها إلى كتاب إن سنحت الظروف بذلك. في نصه "قمر مشغرة" المنشور في مجموعة "وردة المساء" الصادرة عام 2000 يبدو عبدالرحمن مطر كمن يتحدث عن ليبيا التي اعتقل فيها زمنا متخيلا زمنا مقبلا، وليس عن جنوب لبنان الذي توشح نصه بأوجاعه، يقول: "على ضفة الحرب والشتات الليل هنا، هناك في الجنوب يومئ بالطوفان وقد غاب الماء في جوف فجائعنا رقاب هنا خلف الزجاج المنكسر تعلن التطاول كرّة، والارتخاء جسد، رأس هناك، تحت، هنا بين أكوام من دمار.. وحشد من صلوات وتراتيل للوحشة المرسومة ببيانات الرمق الأخير" التجربة التي عاشها الشاعر عبدالرحمن مطر قبل سجنه وخلال سنوات اعتقاله وبعد خروجه من السجن، وحين وصل إلى وطنه الأم بجزء من أسرة وقصاصة ورق بدلا عن إثباتاته الشخصية، من المؤكد أنها سوف تستهوي أي قارئ يبحث عن إصدار متميز.. إصدار نحسبه سيكون نابضاً بخلجات قلم رشيق أبى إلا أن يظل متمردا على صاحبه السجين وعلى السجان أيضا.