انطلاق الثورة ونجاحها في تونس التي كان يضعها محللون في ذيل قائمة الدول العربية التي يمكن أن تنتفض شكل قفزة فوق جدار الخوف الذي تعيشه شعوب خائفة من أنظمتها العربية المستبدة. وانتصار الثورة في تونس أعاد إلى لشعب التونسي ثقته في نفسه وفي مقدرته على الحصول على حقوقه التي كانت مهدورة في عهد الرئيس "زين العابدين بن علي". كذلك فإن ثورة 25 يناير في مصر أدت إلى خلع الرئيس حسني مبارك وملاحقته مع رموز الفساد والتسلط، وهيأ الجو لوضع أسس دولة مدنية غير منقوصة الحقوق، مبنية على الحرية والديمقراطية، ومارافق ذلك من كر وفر بين شباب ميدان التحرير وبين رموز الشد العكسي التي كانت تتحكم في مفاصل مؤسسات الدولة في مصر. كل ذلك شكل "بروفة" مكتملة لكي تنسج على منوالها الشعوب العربية التي تحكمها أنظمة مستبدة. الثورتان التونسية والمصرية ما زالت حية نابضة تعيش بأدق تفاصيلها في نفوس شباب دول عربية تخضع لقمع أنظمتها وإرهابها، الذي ربما يفوق القمع الذي كان سائدا في تونس ومصر. وبالمناسبة فإن الشباب في هذه الأنظمة القمعية عاش منذ نعومة أظفاره، وحتى نيله الشهادة الجامعية، وهو يرى الأب يكدح طوال يومه ليحصل لأسرته على الحد الأدنى من المعيشة. بل إن الغصص التي تجرعها هذا الأب في مسيرته اليومية، والمذلة التي كانت تحني ظهره تحت سمع ابنه وبصره، وهو يطرق باب هذا الموظف المرموق أو ذاك، يرجوه ويريق ماء وجهه أمام مكتبه ليحصل على وظيفة لولده بعد أن تخرج هذا من الجامعة، وقد أنفق كل ما في جيبه من مدخرات قليلة، حتى صار هذا الجيب داخله كظاهره لا يحوي على أبيض ولا على أحمر من مال كان بالأصل يسيرا. ثم بعد هذا يجد الموظف المرموق يقول له: راجعني بعد أسبوع أو شهر. فإذا جاءه ثانية قال له مدير مكتبه إنه غير موجود. هذا الشاب السوري الذي هو عينةٌ من مئات الألوف في كل مدينة من سورية، لم يعد لديه ما يخسره الآن. فقد أوصدت في وجهه أبواب العمل. وقد استنزف والده كل ما يملكه، وأراق ماء وجهه في الوقوف أمام أبواب مكاتب النافذين بحثا له عن وظيفة. وكان يظن أن حصوله على الشهادة الجامعية هو نهاية الشقاء والتعب لوالده، ومفتاح الأمل المزدهر أمامه كي يبني مستقبله ويكون عضوا نافعا في مجتمعه. لكن أمله انهار وصارت الشهادة الجامعية عنوان البؤس والشقاء. في نفس الوقت كان يرى القلة من زملائه المدعومين قد التحقوا بالوظائف، وقد كانوا نجحوا عن طريق مجلس الرحمة في الجامعة، يعني أنهم نجحوا "تشحيط"! وإذا كان هذا الشاب –ومثله مئات الألوف- قد اصطدم بجدار الوظيفة والبحث عن العمل، فإن هناك الصورة الأخرى، التي تزيد مأساويتها قتامة عن مأساوية البحث عن لقمة العيش، وهو العيش خائفا في وطن لا يحميه من كرباج الأجهزة الأمنية أو الصعق بالكهرباء، ثم بعد ذلك يرمى كحلس قديم في زنزانة تحت الأرض يعشش فيها الظلام والجرذان. هذا الشاب الثاني هو النسخة المكررة عن كل أبناء الوطن، فقيرهم وغنيهم، لا ينام في بيته إلا والخوف لحافه بعد أن تسلطت أجهزة الأمن على الناس تروع الآمنين حتى داخل بيوتهم. هذا الجو الكئيب المكفهر الخائف المرتجف يتمثل كأوضح ما يكون في سورية التي لم تترك فيها أجهزة الأمن شيخا في الثمانين من عمره إلا اعتقلته وحكمت عليه بالسجن مثلماهو حال الأستاذ "هيثم المالح" ، ولا فتاة في عمر الزهور مثل "طل الملوحي" إلا واتهمتها في عرضها ووطنيتها، ثم ينطق بالحكم عليها بالسجن، وهي مصفدة الرجلين مقيدة اليدين. إزاء هذه الانتهاكات لحقوق الشعب السوري، فإن على النظام السوري ألا يلومنّ إلا نفسه إذا ما انفجر الوضع، ومن دون سابق إنذار، في مكان ما وفي زمن ما، لم يحسب لهما النظام حسابا، كما حصل في تونس. لمن لا يعرف الشعب السوري، فإنه من أكثر الشعوب العربية شعورا بالأنفة والكرامة والوطنية. رفض استعمار فرنسا المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. قاومها بصلابة وبسالة اضطرت معه فرنسا أن تغادر سورية في أقل من ربع قرن، والشعب السوري يلاحقها بالرصاص والبارود إلى الحدود البرية أو البحر أو المطار. إذا كان الشعب السوري قد سكت حتى الآن على الظلم والديكتاتورية، وعلى غياب الحرية ونهب أموال الناس بالباطل، فلأنه كان يأمل أن يأتي يوم يعيد فيه النظام حساباته ويتراجع عما هو فيه من تجبر واستبداد. والفرصة الآن مواتية لكي يرى النظام الحاكم في دمشق ما حل بنظام "بن علي" ونظام "مبارك"، وما ينتظر "معمر القذافي" الذي تتسارع نهايته الوخيمة، فيعيد حسابه على ضوء النتائج في كل من تونس ومصر وليبيا. على النظام الحاكم في دمشق ألا يختبر صبر المواطن السوري طويلا، فقد نفد لديه الصبر. وألا يغترنّ بمن حوله من حملة الرتب على الأكتاف، والأوسمة والنياشين تملأ صدورهم، فإن هؤلاء لا يعرفون إلا مصالحهم، وسينفضون مع أول مظاهرة مليونية تجوب شوارع دمشق وحلب وباقي المدن السورية. إذا دقت ساعة الحقيقة وخرج الشعب السوري بكافة أطيافه يهتف: الشعب يريد إسقاط النظام ،فإنه لن يفيد النظام أن يعزف نفس المعزوفة التي عزفها "بن علي" و"مبارك" من قبل، عندما زعما أن الإخوان المسلمين هم وراء ما يجري في تونس وفي مصر. فقد أدرك العالم كله زيف هذا الادعاء، لأن الأخوان ليسوا إلا فصيلا من فصائل الشعب الذي ثار على تسلط "بن علي" وتسلط "مبارك". كما أدرك زيف ادعاء "معمر القذافي" عندما زعم بأن تنظيم "القاعدة" يمول المقاتلين في ليبيا. بعد هذا الإسهاب في بيان ما ينتظر الأنظمة التي تصر على احتكار الحكم من دون الشعب، وأن نهايتها كنهاية نظام "بن علي" وكنهاية نظام "مبارك"، على النظام السوري أن يتبصر في ما هو فيه، وأن يضع خطة لإشراك المواطن السوري إشراكا فعليا في الحكم، لا على طريقة أحزاب الجبهة التقدمية . استطرادا فإن من قرأ المقابلة التي أجرتها مؤخرا صحيفة "وول ستريت جورنال"مع الرئيس السوري "بشار أسد"، شعر وكأن الرئيس السوري أراد أن يرسل رسالة يقول فيها: "إن ما جرى في تونس وما يجري في مصر بعيد سورية". ونحن نجيب بالقول: إن الرئيسين "بن علي" و "مبارك" قالا مثل هذا القول قبل أن يطاح بهما. فماذا كانت النتيجة في هذين البلدين؟ سؤال برسم الإجابة من فخامة الرئيس "بشار أسد"؟ أخيرا نقول: عودوا إلى المنطق السليم يا حكام دمشق. اتركوا للصلح مطرح. تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، يكون فيها الحَكَم هو صندوق الاقتراع في انتخابات نزيهة (وليس كالانتخابات التي كانت تجري على عينك يا تاجر). فإن اختاركم الشعب قلنا سمعا وطاعة، على أن تحكموا بالعدل. وإن اختار غيركم، فاسمعوا وأطيعوا. وما عليكم من سبيل، إلا الذين أساؤوا للشعب وظلموا، فإن القضاء العادل يحكم في أمرهم. ونرجو أن لا تضطروا الشعب السوري إلى ما صنع أشقاؤه في تونس وفي مصر، وما يفعله الآن شعب ليبيا، ولا نعتقد أن الشعب السوري أقل حاجة من أشقائه في تونس وفي مصر وفي ليبيا إلى الحرية والديمقراطية. (فستذكرون ما أقول لكم وأفوض أمري إلى الله إن الله بصير بالعباد! الآية 44 من سورة غافر).