الهدوء عامل محفز لإعمال العقل بشكل رصين، بعيدا عن الإيقاعات التي تتجاذب الأفكار والرؤى وتحاول اختطافها. الناس الذين يتمتعون بالهدوء، قابليتهم على الرؤية للأبعد أكثر من سواهم. وهذه سمة تبدأ في التزايد مع ولوج الإنسان إلى عالم الكهولة، حيث يغيب نزق الشباب وصلف القوة، ويغدو التأمل بوابة يمكن من خلالها التعاطي مع الواقع بشكل أكثر وضوحا. المهم أن لا تمتاز السمة التي نشأ عليها المرء بالتقلب والتنقل من هذا المربع أو ذاك. عندما يكون الإنسان ثابتا على رؤية، غالبا يكون من السهل عليه أن يدافع عنها، بعكس حالة التقلب من اليمين إلى اليسار، ومن الشرق إلى الغرب. هذه التحولات، نحن نشهدها حاليا بشكل أو بآخر في مختلف أرجاء عالمنا العربي. الانتقال من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار. التحول من الرصانة والهدوء إلى النزق والتأرجح. الغريب أن هذا الأمر تورط فيه كثيرون، ممن كان الإنسان يظنهم ثابتين. لكن تحولاتهم أخذت أبعادا لافتة، وهو في تنقلاته من خندق إلى آخر، يتوخى أن لا يفقد جماهيريته ولو على حساب الضمير والمبادئ التي عرفها الناس عنه. هناك من يزعم أن حالة القلق التي يشهدها العالم العربي، والتي تعيد إلى الأذهان قلاقل خمسينيات القرن الماضي، جاءت لتمثل تحديا حقيقيا للعقل العربي. لكن هذه التحديات أسهمت في تأجيج نزيف الأفكار، واختلط الحابل بالنابل، فما عاد صاحب التفكير التقليدي تقليديا، وتزايد انخراط المؤدلجين في الشؤون العامة حتى أصبح لهم دور تحريضي لا تخطئه العين. يبقى أن المعول عليه، في كل هذه الأمور، هو النظرة الأبعد لواقع الحال. ومحاولة عدم التأثير على البسطاء والأبرياء، خاصة من قبل أولئك الذين يتخندقون في أبراج عاجية وليس لهم هدف إلا التحريض من قنوات تافهة، أو عبر مواقع إلكترونية مشبوهة.