كيف حرر العقل عقل الإنسان؟ هذه العبارة هي للمؤرخ ويلز في كتابه (معالم تاريخ الإنسانية) ولكن ما صدر حديثا شيء غريب له علاقة بموضوع حقوق النشر والتأليف، فقد أصدر مع نهاية عام 2010م المؤرخ في قضايا الاقتصاد (إيكهارد هوفنر) كتابا بعنوان (التاريخ وحقوق الطباعة والنشر دار الاقتصاد الأوروبي ميونيح) يصل فيها إلى الزعم القائل أن النهضة الصناعية الألمانية تدين بسرها إلى الورق والطباعة، بكلمة أصرح عدم وجود حقوق الطباعة والنشر والتأليف، فقد كانت تنتشر بفعل طلب الناس لها، ويقول في كتابه الذي أثار ضجة في ألمانيا وهو يبحث الظاهرة في مئات الصفحات (436 صفحة 68 يورو)، إن بريطانيا كانت أول من أصدر قانون حماية دار النشر والتأليف عام 1710م في حين أن هذا الحق لم يتم تطبيقه في ألمانيا إلا في عام 1837 م أي بعد قرن وربع من التاريخ البريطاني، بل وحتى حماية هذا الحق لم يتم تطبيقه حرفيا بسبب تفكك الدولة الألمانية قبل بسمارك، فكان كل واحد يطبع على هواه، ولكن أهمية ما حدث حسب رأي إيكهارد هوفنر المؤلف (Eckhard Hoeffner) كان خيرا وبركة على ألمانيا من عدة نواح، فقد نشطت الكتابة وتعممت واستبدلت جو بريطانيا الذي كان يعتمد جو (قال سمع) بمناخ (كتب قرأ) وهي الذاكرة الجديدة للبشرية، وفي الوقت الذي كانت الكتب في بريطانيا مذهبة الأعقاب غالية الأثمان لايصل لها إلا النبلاء والأغنياء بل كان يخشى عليها من السرقة مثل التحف والزجاجيات من الكرستال، فقد مشت ثقافة جديدة شعبية في ألمانيا تعتمد رخص الكتاب وشعبيته، وأهم ما تولد عن هذا الجو هو تطور الكتابات من اللاهوتية والفلسفية كما هو الحال في فرنسا وبريطانيا إلى الكتابات العملية التطبيقية، ويضرب المؤلف مثلا من عام 1806م أنه في الوقت الذي كانت (ماري شيللي Mary Shelley) تطبع كتابها الشهير عن (فرانكنشتاين) كان سيجيسموند هيرمبشتيدت (Sigismund Hermbstaedt) يكتب عن المبادئ الأولى في علم الدباغة. وهذا المناخ عجل بولادة تيار من العبقريات؛ فالورق حرر عقل الإنسان وطور خبراته التكنولوجية كما يقول المؤرخ البريطاني ويلز، وبذا تراجعت بريطانيا وقفزت ألمانيا إلى واجهة الدول الأوروبية المثقفة، التي اعتمدت التعليم والقراءة والكتابة في شتى المناحي الفلسفية والموسيقية والتطبيقية من الطب والهندسة والدباغة والطباعة والصناعات الثقيلة التي ولدت بعد ذلك من مؤسسات عملاقة مثل سيمنس وكروب (Krupp, Siemens) بل والشركات الجميلة المنتجة لسيارات المرسيدس بهجة للناظرين ومتعة للسائقين، وما زال ثمنها بارتفاع والطلب عليها مضاء. ومثلا في عام 1834م طبع أكثر من 14 ألف مؤلف وهو بالنسبة لعدد السكان يعادل الإنتاج الحالي في زمن الديجتال. ولم يبق شيء تقريبا لم يطبع. وكانت طباعة بريطانيا عشر معشار الإنتاج الألماني، ويؤكد المؤرخ هاينريش بنزن (Heinrich Bensen) أن ألمانيا كانت أم الفكرة لأفضل المبيعات (Bestseller) والطبعات الشعبية ومعها أيضا الطبعات للأغنياء المولعين بالمظاهر الفارغة الفضفاضة من تجليد فاخر وورق صقيل، وهو تقليد يمشي بوضع مرض في عالم العرب فينشرون التافه بورق صقيل. وبذلك قفزت ألمانيا من دولة فلاحية متخلفة إلى دولة صناعية متقدمة وفي مدى قرن من فوضى الطباعة؟ أخيرا ظهر مرسوم حقوق الطباعة والتأليف والنشر وتشددوا في تطبيقه، ونقرأ في 24 أكتوبر من عام 1854م يكتب الشاعر هاينه (Heine) إلى الناشر يوليوس كامبه ويرجوه أن ينزل سعر كتابه حتى يباع ويعاد طبعه.. المهم في هذا الكلام أن الكرامة وارتفاع الأمم هي من (نون، والقلم ومايسطرون)، وحيث الأمية الجهالة والاستبداد والتخلف ومسك رقاب الناس بالخوف والوهم من الجبت والطاغوت، ومما يروي فريدريك دوجلاس في كتابه (عبوديتي وحريتي) أنه كان يريد تعليم بقية العبيد من أمثاله القراءة والكتابة فكان حراما عليهم حتى قام بثورته فحرر وتحرر وبالقلم والعلم، ومنه نفهم لماذا طلب المصطفى (ص) مقابل تحرير الأسير تعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة، ومنه نفهم أيضا لماذا كان شيوخ طائفة اليزيدية في جبل سنجار يحرمون على أتباعهم التعلم كي يبقوا في قبضتهم، ونفهم أيضا تردي وضع المرأة عندنا بالجهل. إن المعرفة نور وتحرر ومن أول كلمة نزلت من الكتاب كانت آية (اقرأ باسم ربك الذي خلق).