المملكة العربية السعودية مرت بحدثين مهمين خلال العقدين الماضيين. هذان الحدثان شكلا وعي المجتمع السعودي وأسهما في تغيير الكثير من الخطوط الفكرية والاجتماعية. في حرب الخليج الثانية وتحديدا في 6 نوفمبر 1990 شهدت السعودية أكبر سجال فكري بين تيارات إسلامية وليبرالية، وذلك من خلال الحادثة الأكثر شهرة، وهي مظاهرة قيادة المرأة للسيارة والتي خرج فيها سبع وأربعون امرأة يقدن ثلاث عشرة سيارة في وسط العاصمة الرياض. وكان الهدف من المظاهرة هو المطالبة بقيادة المرأة في السعودية للسيارة، ولم تستمر المظاهرة طويلاً حيث أوقفت الشرطة المتظاهرات، بعد ذلك كانت هناك موجة رفض عالية والتي ارتفع فيها صوت المجتمع المحافظ قبل الإسلاميين في رفض هذه الفكرة جملة وتفصيلا، وهو ما شكل ضغطاً على المؤسسة الدينية في حماية قيم المجتمع المحافظ من خطر الانفلات الذي حذر منه قادة المجتمع، فأصدرت فتاوى وأحكام عقابية بسبب خرق قانون منع المظاهرات في السعودية، اشتعلت بعدها حرب البيانات بين مؤيد ومعارض. وقتها بدأت تتداول مصطلحات مثل الليبرالية والعلمانية بشكل شعبي وفي شتى المجالس والمنابر، بل إن الدعاء من المنابر على العلمانيين لم يعرف إلا بعد تلك الحادثة التي استفزت مجتمعا محافظا بأكمله. والحادثة الثانية، كانت بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عندما تم اكتشاف أن خمسة عشر من المنفذين من السعودية، والتي أثارت الكثير من التساؤلات عن مدى تأثير المناهج والخطاب الديني على تفكير أولئك الشباب، والتي ولدت بعدها صراعا ما بين التيار الإسلامي والليبرالي، كان اتهامات وشتائم أكثر منها ردودا، إذ لم يتم تحديد هذه المفاهيم التي صيغت على كل من لديه أفكار مخالفة للتيار المحافظ! وهو ما شكل ضبابية في معرفة ما إذا كان هناك تيار ليبرالي في المملكة. هذا الحديث سقته لمعرفة سبب إثارة موضوع الليبرالية السعودية التي سرقت الكثر من الضوء هذه الأيام، إذ لا توجد مفاهيم ليبرالية يمكن أن ينطلق منها ليبراليو السعودية باستثناء قضايا المرأة كموضوع اجتماعي وليس فكريا أو سياسيا ولا حتى اقتصاديا، وإن كان ثمة كتابات بدأت تخرج عن الليبرالية لتشمل جوانب متعددة من الحياة في محاولة لإثبات التنوع والقدرة لدى هذا التيار على الحديث عن قضايا خارج إطار المرأة وحقوقها من خلال كتابات عن الاقتصاد الإسلامي وغيره. وفي اعتقادي أن في السعودية مثقفين ليبراليين لكن لا توجد ليبرالية سعودية تطبق المفاهيم الليبرالية في حياتها وإن كانت تعلن الانتماء الفكري لهذا التيار. ولعل ردة الفعل العنيفة التي أعقبت محاضرة الغذامي إحدى الدلائل على غياب الممارسة الليبرالية في أوساط المنتسبين إليها. في المملكة العربية السعودية ليبراليون محافظون اجتماعيا، وإسلاميون منفتحون فكريا وسياسياً نتيجة تداخل الأفكار بالانتماءات والولاءات غير المعلنة، وهو ما جعل لدينا الكثير من الضبابية تجاه تحرير مفهوم هذه المصطلحات ومن ثم الحكم عليها. ولعل المطالبة بالحريات هي أكبر سمات الليبرالية العالمية، والدفاع عن حريات الآخرين في التعبير عن آرائهم أكبر ما يميز اليبرالية، لكن يبدو أن الليبرالية السعودية ربما أصابها ما أصاب العلمانية في الشرق الأوسط التي أنتجت أشد مناهج التطرف العلماني المستبد الديكتاتوري القائم على القمع من خلال علمانية تركيا التي صادرت حق الفرد في ممارسة قناعاته إلا بعد الإيمان بقناعة أتاتورك العلمانية الإقصائية والتي أتت بانقلاب على كامل المفهوم العلماني بالممارسة الذكية للعلمانية من خلال حزب العدالة والتنمية الإسلامي، وعلمانية تونس التي أقصت حرية الفرد وإرثه التاريخي والعقدي إلا من خلال رؤية النظام لمفهوم هذا الإرث والتي بدأها بو رقيبة وأكملها زين العابدين بن علي والتي جاء نتيجتها ثورة شعبية تستعيد حرية الفرد وكرامة الإنسان قبل أي شيء، لذا فإن الأفكار التحديثية المنتجة من البيئة الغربية لا بد من مراعاتها للمجتمع الذي تنشأ فيه، فالإنسان هو الإنسان في الغرب أو الشرق، والحرية لا تتجزأ والأفكار لا تتقولب حسب المصالح. وإذا تجاوزنا مصادمة هذه التيارات لمسلمات عقائدية لدى الأفراد فإننا لا يمكن أن نتجاوز مصادمتها لإرادة الإنسان وانقلابها على الأسس التي انطلقت منها في محيطها الأصلي الذي ولدها، لذا فإن مصير اليبرالية وغيرها من الأفكار مرهون بمدى قربها من كرامة الإنسان وقيمه التي يستمد منها إيمانه وليس بمدى حفاظها على مكتسباتها النفعية القريبة التي تُغلب مصلحة الفرد والحزب على مصلحة الشعب.