أنباؤكم - عمر غازي ربما كان الكبت واليأس والظلم والحرمان والرغبة في التحرر من القيود المستبدة دافعا لدى الملايين لإظهار الفرح والسرور والابتهاج بما حققته حادثة (انتحار الشاب التونسي محمود بوعزيزي) من نتائج لم يكن يتوقعها هو ولا غيره عندما أقدم على إزهاق روحه حرقا يائسا ومحتجا على طغيان النظام الحاكم في بلده تونس. وربما كانت هذه الحادثة ونتائجها دافعا لدى آخرين للقيام بالدور نفسه للتحرر من تلك القيود والتعبير عن شدة اليأس والاحباط اللامتناهي الذي أصابهم على مدى السنين الطوال، لذا فمنذ الإعلان عن حادثة الانتحار تلك وأنا أتوقع المزيد من الانتحار لدى الشباب العربي المحبط وهو ما حصل للأسف. وبالرغم من اعترافنا بأن ما قام به (بوعزيزي) – عفا الله عنه وتغمده في واسع رحمته- عمل محرم في الشريعة الإسلامية إلا أنها لم تكن المرة الأولى التي تزهق فيها روحه فقد زهقت روحه عشرات وربما مئات المرات وهو حي يرزق، فهذا الشاب كملايين غيره من المظلومين والمعدمين والواقعين تحت سطوة الظلم مات قبل أن يحترق جسده واحترق قبل أن تمسه النار وربما كانت آلام النيران التي أشعلها في جسده أخف مما عاناه في حياته. عتبي هنا ليس على (بوعزيزي) فقد أفضى إلى ما قدم وهو بين يدي رب غفور رحيم كما أن اللوم والعتب لما آل إليه هذا الشاب وغيره لن يكون بالطبع على الطغاة والجبابرة فهؤلاء لا يعرفون لغة المشاعر والعواطف وضمائرهم بمعزل عن أن تستيقظ من جديد فقد نامت نومة أهل القبور. لكن من يستحق العتاب واللوم برأيي هم الدعاة والعلماء أولا والإعلاميون ثانيا، لأنهم في غمرة فرحهم بانتصار المظلوم على الديكتاتور في تونس تجاهلوا أو تناسوا وربما جهل بعضهم أو نسي أن يتناول الحادثة في إطارها الصحيح على أنها انتحار محرم لا مجرد احتجاج أو ثورة وأن الإنسان مهما بلغ عجزه وضعفه ويأسه وقلة حيلته وهوانه لا يحق له أن يختار انهاء أجله بيده. فالصمت وعدم الإنكار ربما يعطي إحساسا خاطئا بالتأييد ومشروعية هذا الفعل أو يقلل من حجمه كجرم عظيم، كما أن هذه الحادثة والحوادث المماثلة لها تعطي بعداً آخر أشد خطورة سيما وأنها أظهرت أن هناك الآلاف من اليائسين والمحبطين الذين هانت عليهم حياتهم مما يسهل عملية تجنيدهم لاستخدامهم كقنابل بشرية موقوتة من قبل صناع الموت وما أكثرهم. للأسف الشديد لم تحرك المؤسسة الدينية الإسلامية الأكبر في العالم (الأزهر) ساكنا إلا بعد إحراق 4 أو 6 أشخاص لأجسادهم لتعلن عن موقف الشرع الحنيف من عمليات الانتحار حرقا. والمؤسف أيضا أن كبار الدعاة والعلماء في العالم العربي هبوا للابتهاج بنصر تونس عبر البيانات ووسائل الإعلام المختلفة وصمتوا في الوقت نفسه عن تحذير الشباب من الإقدام على هذا الفعل الخطير، كما أن الإعلام هو الآخر أظهر (الشاب بوعزيزي) على أنه شهيد وهو أمر خطير جدا لأنه بذلك كان يقدم الموت على طبق من ذهب لمئات الآلاف من اليائسين في صورة محببة وجميلة، ناهيك عما أشرت إليه سابقا من سهولة تجنيد هؤلاء المحبطين الذي رخصت حياتهم في ناظرهم من قبل الإرهابيين وخصوصا (تنظيم القاعدة) الذي يحسن انتهاز الفرص وسيقدم لهم بالطبع الجنة والحوريات بكلمات يسيرة ومعسولة تشعل النيران بقوة وحماس في أجسادهم المنهكة من الطغيان، لكن هذه المرة لن تقتلهم وحدهم وإنما ستلتهم الآلاف معهم ممن لا حول لهم ولا قوة. ما أردت التأكيد عليه أننا بحاجة إلى المزيد من الوعي لمواجهة مثل هذه الظواهر وأن العلماء والدعاة والمؤسسات الدينية والإعلامية في رقبتهم الكثير مما يجب تقديمه تجاه شعوبهم فليكونوا شموعاً مضيئة في طريق الحياة، ولتكن حلولنا دائما وقائية ولا ننتظر لحين تمكن الوباء من جسد الأمة المثخن بالجراح لكي نتحرك، فالوقاية خير من العلاج. * نقلا عن: "مركز الدين والسياسة للدراسات" www.rpcst.com