د.هاشم عبد الله الصالح - الاقتصادية السعودية لسنا الوحيدين في العالم المهتمين بتطوير التعليم, لكننا مع الأسف أدخلنا هذه القضية في دهاليز لكثرة خوفنا من أن يتسبب هذا التطوير في زعزعة الكثير من قناعاتنا عن أنفسنا, التي ترسخت في أعماقنا, فهناك من يشكك أصلا في مشروعية التفكير في التطوير عموما وليس في التعليم فقط, إلا أن فتح باب التطوير في التعليم بالذات هو الأكثر أهمية لأنه يعني السماح لدخول رؤى جديدة تطور وتعيد تشكيل العملية التعليمية وتعيد صياغة ما يجب أن يتعلمه الطالب لنجعل منه إنسانا صالحا, والإنسان الصالح هو الإنسان المنتج والفاعل والمتفاعل مع هذه الحياة. بناء الإنسان الصالح هو جوهر العلمية التعليمة, فالمجتمع ينهض ويتقدم بما عنده من أناس صالحين, والمجتمع الفقير في عدد الصالحين يبقى مجتمعا متخلفا ومقهورا وربما مستباحا من قبل الغير حتى ولو امتلك خزائن الأرض وما عليها. الأمم والمجتمعات لا يمكنها أن تتقدم وتقيم حضارة إلا بالإنسان الصالح, والمقصود بالإنسان الصالح هو ذلك الإنسان الذي يستطيع أن ينتج أو يقدم إضافة إيجابية لهذه الحياة ولا يتحقق هذا الصلاح إلا بأربعة أشياء, المعرفة والأخلاق والثقافة والإدارة أو التنظيم. المعرفة هي التي تعطي الإنسان القدرة على صنع الفعل أو استحداث هذه الإضافة المطلوبة, أما الأخلاق فهي القيم والضوابط التي ترشد سلوك الإنسان, وأما الثقافة فهي التي تتكفل بتشكيل رؤية الإنسان لهذه الحياة ومكوناتها لتجعل منه, وبالأخص الإنسان العارف, إنسانا قادرا على الفعل, وأما الإدارة مظهر من مظاهر الحكمة وتختص بتنظيم البيئة التي سيتحرك فيها هذا الفعل. فالفعل أو العمل هو نتاج لمعرفة الإنسان وكلما كان الإنسان أكثر معرفة كان أقدر من غيره على القيام بأعمال صالحة ونافعة في هذه الحياة, وأما الأخلاق والثقافة فدورهما هو توجيه وترشيد هذا العمل في إطار قيم إنسانية ورؤية واضحة لهذه الحياة, أما الإدارة فهي التي تتكفل بحفظ حركة هذا العمل في مساره نحو الأهداف المرجوة. المفكر والأستاذ إبراهيم البليهي أراد بنا وهو يناقش في واحد من مقالاته الثرية مسألة تطوير التعليم أن نعود إلى هذه الدائرة, وهي دائرة الإنسان, فالتعليم هو الأداة المهمة لانتشار المعرفة في المجتمع, فالتعايش مع المعرفة هو الغاية من التعليم ولا يمكن للإنسان أن يتعايش مع شيء وهو يشعر بأنه مفروض عليه أو لا توجد عنده رغبة أو ميل إليه, فأستاذنا البليهي يؤكد أن التلقائية والولع الفطري والرغبة الطبيعية لتحصيل المعرفة عند الطالب هي ما يجب على التعليم أن يحافظ عليه, وهذا هو فعلا ما يجب أن يكون الأساس لتطوير التعليم عندنا. التعليم ينجح بمقدار ما يحافظ على هذه التلقائية لا أن يكون السبب في ضمورها أو فسادها, فعندما نضع هذه التلقائية وهذا الميل الطبيعي للمعرفة عند الإنسان إطارا للعملية التعليمة يصبح من الضروري أن نبحث ونحلل البيئة التعليمية التي يعيشها الطالب في المدرسة لنعرف هل هي فعلا بيئة تحافظ على هذه التلقائية وتنميها أم أنها بيئة مفسدة لها, فالبيئة التعليمية لا تصنعها المناهج الدراسية وحدها وإن كانت عنصرا مهما جدا فيها, فالمدرسة كبناء ومكونات وموارد وخدمات, والمدرس كإنسان بعلمه وثقافته وطريقة التدريس كلها عناصر مهمة في إنتاج البيئة التعليمية المطلوبة وتشكيلها. أما كيف نؤسس لبيئة تعليمية تجعل من الطالب يتشرب المعرفة بشكل تلقائي, فهو الذي يبحث عنها وهو الذي يستمتع بالحصول عليها وهو الذي يهتم بتنميتها, هناك عدة نقاط يجب الالتفات إليها, منها: 1- تحرير الطالب من سيطرة المدرس والمنهج, علينا أن نخرج الطالب من ثقافة من علمني حرفا صيرني عبدا, فالمدرس لم يعد ولا يجب أن يكون المصدر الوحيد للمعرفة عند الطالب, فالطالب يجب أن تتاح له الفرصة ليشارك بنفسه في البحث عن المعرفة وتحصيلها, وهذه المشاركة لها دور كبير في أن تحفظ ما عند الطالب من تلقائية غير مصطنعة للحصول على المعرفة. أما الكتاب المدرسي فيجب أن يعطى للطالب على أنه مرجع للمادة التي يدرسها وليس بصيغة الكتاب المقرر لها, على أن تكون هناك في الفصل مكتبة صغيرة تحوي عدة كتب ومراجع للمادة الواحدة ليستعين بها المدرس في شرحه المادة ويستعين بها الطالب في دراسته المادة. اعتماد مرجع أو مراجع للمادة الواحدة وليس حصر المادة بكتاب مقرر واحد يعطي للطالب الخيار في اختيار من أين يدرس, ومجرد وجود خيارات متعددة أمام الطالب وأن هناك قرار عليه هو أن يتخذه باختيار المرجع الذي يريد أو الرجوع إلى أكثر من واحد يعطيه الشعور بأن له دورا في تعليم نفسه في مقابل حالة يكون فيها الكتاب المقرر هو الكتاب المفروض عليه ولا خيار له في ذلك وأن المعلم هو المصدر الوحيد لتعلم الدرس. تعزيز مشاركة الطالب في تعليم نفسه تجعله يرتبط أكثر بما يتعلمه. وعلينا أيضا أن نتخلى عن الكثير من الأمور الشكلية التي تألفنا عليها في ترتيب وإعداد الفصل الدراسي التي تعمق تبعية الطالب للمدرس والمقرر الدراسي, فتخصيص فصول دراسية لكل مادة رئيسة وجعل الطالب يأتي للفصل وليس المدرس فيه شعور مختلف عن بقائه في الفصل ومجيء المدرسين له وهو جالس طوال اليوم في مكان واحد, وطريقة جلوس الطلاب هي الأخرى مهمة التي يجب أن تكون على شكل حلقات وليس على شكل صفوف متتابعة. 2- إيجاد حالة من التوازن بين ما يعطى الطالب نظريا وعمليا, فالطالب يتفاعل كله مع المعرفة عندما يتعلمها أو يحصلها من خلال التجربة أو من خلال المعايشة حتى ولو كانت هذه المعايشة افتراضية. فهنا إثارة ومتعة وانشداد في عملية التعلم على خلاف التعلم بالتلقين النظري, وهذه كلها لها دور في بقاء الولع الطبيعي للحصول على المعرفة. لنتصور شعور الطالب وهو يأخذ درس الجغرافيا عن طريق فيلم ثلاثي الأبعاد ومن ثم يطلب منه كتابة بحث موجز عما تعلمه في هذا الدرس ونقارنه بشعور طالب آخر يدرس هذه المادة نفسها في الفصل ومن الكتاب المقرر ويسمع عن التضاريس الجغرافية من جبال وهضاب ووديان ومناطق ولا يستطيع أن يتصورها بذهنه, بالفيلم عززنا عند الطالب المعلومة بالصورة الواقعية وهذا مزج يجعل من المعرفة ماتعة للطالب وأكثر ديمومة عنده. حتى مادة اللغة العربية يجب أن يكون لها مختبر ومعمل خاص بها, فوجود التقنيات الحديثة الآن يساعد كثيرا على التعلم الصحيح للغات, فبإمكان الطالب اليوم أن يتحاور مع جهاز إلكتروني باللغة العربية الفصحى ومن ثم يعطيه الجهاز موجزا عن الأخطاء اللغوية في حديثه ومن ثم يكرر التجربة وهكذا يتقن الطالب قواعد اللغة العربية, هناك فرق كبير بين أن أسمع أو أتعلم القواعد العربية بشكل نظري وبين أن أمارسها بشكل عملي, إننا مع الأسف ندرس اللغة العربية واللغات الأخرى كمواد دراسية وليس كلغات, وهذا هو السبب في إخفاق الطالب في تعلم اللغة بالشكل المطلوب. أما المواد العلمية والرياضيات فجانبها العملي يجب أن يفوق الجانب النظري بشكل كبير وإلا من الصعب أن نحقق عند الطالب محبة ومتعة حقيقية في تعلم هذه المواد. اعتماد الطريقة العملية في تحصيل المعرفة يتطلب الخروج بمفهوم المدرسة من شكلها الحالي, وهذا مع الأسف لا نجده حتى في حده الأدنى في بناء المدارس الجديدة. فعلينا أن نبني مدارس لطلاب القرن الواحد والعشرين وليس لطلاب في خمسينيات القرن الماضي. ما زالت المدارس في نظرنا مجرد مبان فيها عدد من الصفوف, بل هي في الحقيقة غرف كغيرها من غرف المنزل ومن ثم هناك غرفة للمدير وغرفة لنحشر فيها كل المدرسين وساحة وحمامات وبوابة وغرفة حارس. 3- إيجاد مساحة تعليمية يكلف الطالب ببرمجتها وملئها حسبما يرغب هو في تعلمه بمساعدة من المدرسة, فتخصيص ثلث اليوم الدراسي كمساحة تعليمية مفتوحة للطالب يبرمجها فصليا أو شهريا حسبما يرغب فيه من مواد ومعارف أمر فعلا يجعل من الطالب مشاركا في تعليم نفسه. إن إلزام الطالب ببرنامج ليس له دور في إعداده هو في الحقيقة خنق للميل الطبيعي عنده للحصول على المعرفة, فهذه الفترة التعليمية المفتوحة ستتيح للطالب أن يكتشف نفسه وأن يتعرف على العلوم التي يجد لها قبولا عنده وهنا يتبلور الإبداع والتعلق بحقل معرفي معين وعندها لا تكفيه ما يحصل عليه في المدرسة وسيدفعه هذا التعلق التلقائي للاستمرار في التعلم حتى وهو خارج المدرسة. واختيار الطالب لما يريد أن يتعلمه في حد ذاته تعليم وفيه احترام لشخصيته وتعزيز الثقة بنفسه. هذه وقفة سريعة لبعض المكونات التي يجب أن نهتم بإيجادها في البيئة التعليمية حتى نساعد الطالب على أن يتعلم ويتعايش مع المعرفة من غير أن يحس بأنها مفروضة عليه, فالإكراه بطبيعته ينفر الإنسان من الأشياء حتى ولو كانت هذه الأشياء لمصلحته. التعليم الذي يشكل في منظومة من الإكراه لن ينتج لنا إنسانا قادرا على توظيف ما تعلمه وما عنده من معارف إلى أفعال وممارسات تضيف قيمة إيجابية إلى حياته ومجتمعه. وللحديث تتمة.