بين المتناقضين، تشاهد صورة السعودي الحديث على مجرد فضائيتين متجاورتين. على القناة الرسمية تشاهد بضعة من نخب الحوار والثقافة المحلية تحذر من المد المخيف للقبيلة وللتصغر والتخندق القبلي، وعلى القناة الشعبوية تتفرج على المد القبلي، حين تقطر كل قبيلة شعراً وفخراً تتبارى فيه القوافي على مفردات الدم واللطم والسيوف والنعرات واستجرار الماضي المزيف، وكل قبيلة بما لديهم فرحون. تشاهد شعراء القبائل على بضع شاشات فلا تشعر بالردة الاجتماعية فحسب، بل بالخوف الشديد أن تعبث أصابع الجيل الجديد بأزرار(الريموت كنترول) لتسهر على هذه الحوارات القبائلية. وفي وجه هذا الزحف القبائلي إلى مفاهيم التخلف، ماذا سيفعل حوار وطني وحيد يحاول رمرمة هذا المرض الاجتماعي القاتل؟ ماذا سيفعل حوار وطني عن القبيلة، يبث بضع ساعات على الهواء، أمام عشر قنوات عن ذات المرض القبائلي طوال العام، طوال اليوم، وطول عقد من الزمن؟ ماذا يستطيع هذا الحوار الوطني غير أن يشجب ويحذر لساعة في يوم وحيد شارد من الزمن، إذا كانت هذه القنوات تتبارى لنقل شعائر القبائل على الهواء، وتلفزة احتفالات أباطرتها حتى بتنا في اليوم الواحد وعلى القناة الواحدة، وفي ذروة المساء الواحد، ننتقل إلى بضع قبائل تحشد شعراءها من متخلفي الجيل الجديد، ومرة أخرى إلى حشو القوافي بمفردات اللطم والدم والقتل والثأر ونعرات القبيلة واستجرار الماضي المزيف. لم يبلغ السيل الزبى، بل بلغ عظام الرقبة ولم يبق إلا القليل من رؤوس العقلاء قبل أن نغرق، وانظروا في تصريح مسؤول الابتعاث وهو يحذر أن ممارسات القبيلة وصلت حتى إلى شباب البعثة في مدنهم بالغرب. نحن من أوصلناهم إلى هذه البيئة وهذه التربية. والحوار الوطني حول القبيلة لم يكن بالواجب أن يستدعي نخب الثقافة، فهؤلاء نعرف رأيهم سلفاً دون حوار، وهؤلاء لن يكرروا إلا أسطوانة التخدير التي لن يستمع إليها أحد. الحوار حول القبيلة يجب أن يستهدف ملاك الفضائيات وشعراء الردح وأباطرة الحفلات القبائلية هؤلاء الذين يستحقون العلاج: ادعوهم لحوار وطني.