ليس المطلوب منا نحن البشر أن نمر على آيات الله في الطبيعة لنمتع أعيننا بمنظر نهر أو سهل أو جبل جميل فقط، أو نشنف آذاننا بأصوات الطيور الندية فقط، وإنما بقراءة مدلولات هذا الجمال، بغض النظر عن نوعه، لأن الكون في حقيقته ليس إلا كتابا منشورا، يقابله كتاب مسطور هو القرآن، وما بين الكتابين جسر يستمتع من يتقن عبوره، ويشعر من يستطيع قراءة ما بين أسطره بعظمة الخالق وروعة الكون المخلوق، كما يشعر بقيمته كإنسان مستخلف، ولكي يكون لحياتنا معنى وطعم نحتاج أن نعيش وفق مبادئ يمكن كشف اللثام عن بعضها من خلال تأمل الكون المنشور، فالمحيطات كما نعلم جميعا هي مسطحات مائية ضخمة وهي أيضا مخازن ضخمة له، وهي بالتالي المصدر الرئيسي للغيوم التي لا تعدو أن تكون ماء متبخرا، تسوقه الرياح إلى حيث يشاء رب الكون، حتى إذا صار السحاب مثقلا، وتوفرت له ظروف النزول هطل مطرا، تأخذ منه الأرض ما تستطيع أن تأخذه والفائض عنها يجري على سطحها، وكلما مر على جزء من هذه الأرض شربت منه هي الأخرى ما استطاعت، وما يفيض عن قدرتها على امتصاصه يتجمع ليكون سيولا أو أنهارا، وكثيرة هي الأنهار في هذا العالم، ونهر الأردن واحد منها، ماؤه عذب وتغذيه جملة ينابيع في الجزء الشمالي من فلسطينالمحتلة إضافة إلى ما تجود به سلسلة الينابيع من جنوب لبنان وجنوب غربي سورية، ويتجه جنوبا حتى يجد نفسه وقد اتسعت الأرض لتكون منه بحيرة طبريا، التي يبقى ماؤها عذبا لأنها تأخذ وتعطي، فهي تأخذ من النهر ماءه، ثم لا تلبث أن تعطي هذا الماء فيخرج منها كي يسقي الزرع والنسل، ويعيش فيها من أنواع الأسماك والحيوانات الكثير، كما يعيش على ضفافها أنواع وأصناف من النباتات، ويستمتع بمنظرها من يبني بيتا على ضفافها، ومن يسكن على ضفتها الغربية فسيبتسم للشمس كما تبتسم البحيرة مع كل شروق، ومن يسكن على ضفتها الشرقية، سيسعد بوداع الشمس عند غروبها، وسيبتسم هو الآخر مع البحيرة حين تودع شمس كل يوم، ومن مائها تنبت زروع وأشجار ويأكل الناس من ثمارها، عبر العصور، ففي عطاء بحيرة طبرية حياة البشر والشجر والزرع والطير والسمك، وكائنات كثيرة، ولا يزال نهر الأردن يعطي بحيرة طبريا، ولا تزال هي الأخرى تأخذ منه وتعطي، ولكن هذه الصورة تتبدل حين يصل ماؤها إلى البحر الميت الذي يأخذ الماء ولا يعطيه، ويتحول هذا الماء إلى مكان تموت فيه الحياة، فلا سمك يعيش، ولا نبات ينمو، ولا طير يحوم حوله، ولا يسمع الناس زقزقة لطائر، ولا ورقة لشجرة، وكأن الحياة لا توجد إلا مع العطاء ، وكأن الموت مرافق للكنز والشح والمنع، في البحر الميت تموت الحياة، ويفتقد النبات والحيوان القدرة على العيش في مائه، فقط لأنه أخذ ولم يعط، وخضع لقانون رب العالمين فتبخر الماء بالتدريج وبقي الملح يتراكم حتى صار قاتلا لكل نبات وحيوان، فحرم الإنسان والحيوان والنبات من العيش فيه، وتحققت السنة الربانية، من يأخذ ولا يعطي يصبح كالبحر الميت مصدرا للموت لمن حوله، لأن قانون رب العالمين صارم وصادق وينص على أن من يأخذ ولا يعطي لا يستطيع أن يكون مصدرا للحياة، ومن يأخذ ويعطي هو فقط من يمكنه أن يكون مصدرا لحياته وحياة غيره، لذا أقول لكل من يشعر باكتئاب: أعط حتى من لا تعرف، فإن كان معك مال أعط منه حتى تحيا، ففي عطائك المال لفقير حياة لذلك الفقير، وإن كنت لا تملكه فاعط غيرك ابتسامة تملكها بكل تأكيد، لأن في الابتسامة حياة لغيرك، فأنت تؤكد لمن تبتسم في وجهه، أنه لا يزال في الدنيا من يحبه، أو على الأقل من يشعره بالأمن، وإن كنت لا تملك المال فاعط من جهدك لكبير يحتاج مساعدتك، وأعط بعضا من وقتك لمن يحتاج إليه، أعط ففي العطاء حياة وفي المنع موت.