قبل عدة سنوات لا أذكر كم عددها، كتبت مقالاً بعنوان "كل هذا الحقد"، وقبل عدة سنوات أيضاً كتبت مقالاً بعنوان "ومما تشكو الفدرالية"، كان التركيز في هذين المقالين على أسباب انقسام الدول، أو انفصال بعض أقاليم الدول لتكون دولاً مستقلة، ويكون العداء المستعر والدامي بين هذه الدول التي كانت دولة واحدة في الماضي القريب، ومن أبرز أمثلتها الهند وباكستان، وبعض جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق. واليوم ها هو السودان يقترب من هذا المصير، كأول دولة عربية مستقلة تتعرض لمثل هذا المصير الذي كنا نظنه بعيداً عن العرب وعالم العرب، المتدثر بخصوصيته وفرادته، هؤلاء العرب الذين كانوا يدعون قبل عقود قليلة إلى دولة واحدة تمتد من خليج العرب إلى بحر الظلمات (المحيط الأطلسي)، وما قد يحدث بعد ذلك من علاقات عدائية بين دولة شمال السودان ودولة الجنوب، وهو النتيجة المرجحة للانفصال لو حدث، وهو قاب قوسين أو أدنى من الحدوث، إذ إنه من الملاحظ أن الدول التي تنفصل عن دول أخرى، أو لنقل تتفتت، تكون على درجة من العداء تفوق بمراحل ما قد يكون بين تلك الدول وأعداء آخرين، حتى وإن كان العداء تاريخياً، فصراع الهند التاريخي مع الصين ليس بتلك الحدة كما هو حال العلاقات مع باكستان، رغم أن الهند وباكستان خرجتا من رحم واحدة. والسؤال المطروح هنا هو لماذا يكون ذلك؟ أي لماذا تتفتت الدول، ولماذا يكون العداء بين الدولة الوليدة والدولة الأم بهذه الحدة؟ قد يكون للفروق العرقية أو الطائفية أو الدينية أو الإقليمية بين السكان، أو كل هذه العوامل جميعاً دور في عملية تفتت الكيان الواحد والعداء اللاحق، ولكن هذا ليس كل شيء، فللمسألة وجوه أخرى. فهذه الفروق والتمايزات الموروثة قد تشكل بنية تحتية للخلاف والاختلاف، ولكنها لا يمكن أن تكون مصدراً للعداء، إلا إذا استغلت، لهذا الغرض أو ذاك، لتحقيق ذلك، دون أن تكون السبب فيه. فالعداء بين الروس وكثير من أعراق الجمهوريات السوفيتية السابقة مثلاً، لا يجد جذوره في الفروق الموروثة بحد ذاتها، بقدر ما يجده في التمايزات اللاحقة التي تتخذ من الفروق الموروثة قاعدة لها. فالجميع كانوا يعيشون في ظل كيان واحد، ويحملون جنسية واحدة، وفي ظل مواطنة واحدة. ولكن مثل هذا التجانس السياسي ظاهراً، كان يخفي تنافراً باطناً، ليس نتيجة الاختلاف الموروث، ولكن نتيجة التفرقة اللاحقة. فأن تكون صربياً في يوغسلافيا السابقة مثلاً، يعني أن تكون مواطناً بدرجة أعلى من كونك بوسنياً أو كرواتياً، رغم أن جوزف بروز تيتو، الزعيم المؤسس للدولة اليوغسلافية الموحدة كان كرواتياً. وأن تكون روسياً في الاتحاد السوفيتي، أو حتى قبل ذلك في الإمبراطورية القيصرية، يعني مواطنة أعلى بدرجة أو أكثر من الآخرين، وبالتالي امتيازات أكثر. والأمثلة كثيرة هنا، مثل وضع النمساوي في إمبراطورية النمسا والمجر، أو التركي في الإمبراطورية العثمانية، أو الإنجليزي في الإمبراطورية البريطانية، أو في كثير من الدول الدارسة التي تتدرج منزلة مواطنيها صعوداً ونزولاً وفقاً للعرق أو الدين والطائفة أو الإقليم، أو وفقاً لها جميعاً. وتكون المشكلة أكثر تعقيداً عندما يكون النظام السياسي غير مرن بحيث لا يسمح بأي درجة من التعبير عن التمايزات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، أو عدم السماح للاختلافات الثقافية الداخلية أن تعبر عن نفسها. وتكون المشكلة أكبر حين يتجاهل النظام السياسي مثل هذه المسألة جملة وتفصيلاً، أي تجاهل التعددية الفطرية والتفرقة في المواطنة بناء على هذه التعددية في الوقت ذاته، بشكل يكاد يكون نوعاً من المفارقة، حين يعتقد النظام، أو يريد أن يعتقد، أن الشكل الخارجي المُعلن القائم على المساواة في المواطنة، في ظل تجانس مفروض، هو السائد فعلاً، أو يغض الطرف عن مثل هذا الوضع اعتقاداً منه أن ذلك لن يضر النظام أو الكيان بشيء ذي قيمة، وأن ما حدث ويحدث لدى الآخرين ليس بالضرورة أن يحدث لديه. فمن أسباب استقرار واستمرارية دول الغرب، رغم الفجوات والأزمات، هو أن الأنظمة السياسية هناك مرنة إلى درجة كافية بحيث يمكن احتواء الاختلافات بأنواعها والتعبير عنها في ذات الوقت، مع المساواة فيما يتعلق بمسألة المواطنة. فالفروق والتمايزات الموروثة موجودة في كل بلد، وهي تبرز بشكل كبير في بلد مثل الولاياتالمتحدة قام على الهجرة، وتقل في بلد مثل فرنسا يتمتع بقدر كبير من التجانس في هذا المجال. ولكن الولاياتالمتحدة مثلاً، لا تواجه مصيراً مثل المصير السوفيتي، وذلك راجع إلى أن النظام السياسي الأمريكي، رغم كل مثالبه ونقائصه، هو أكثر مرونة من النظام السياسي السوفيتي المندثر، كما أنه لا وجود لتفرقة بين المواطنين بناء على هوياتهم الفرعية، رغم أن الولاياتالمتحدة كانت دولة عنصرية إلى عهد قريب، وما زالت العنصرية فاعلة في الكثيرين هناك، ولكن مرونة النظام ساعدت على تغيره وقدرته على احتواء الأزمات والمشكلات، وبالتالي ساعدت على استمرارية الكيان. القضية المتحدث عنها هنا هي قضية استقرار الكيانات أو اهتزازها، بل وحتى اندثارها، فاستقرار الكيان، وخاصة الاستقرار السياسي، هو العامل الأهم لحركة الأفراد والجماعات وصناعة الحضارة، وهذه الحركة هي المحددة في النهاية لقدرة الكيان على الاستمرار أو الانهيار. والكيانات العربية مثلها مثل بقية الكيانات في التاريخ القديم والحديث، فيها من الاختلافات والفروق والتمايزات الموروثة الشيء الكثير. فلا يمكن أن نتحدث عن العراق مثلاً دون التعرض لقضية الشيعة والسنة والأكراد، ولا يمكن أن تتحدث عن لبنان دون التطرق إلى التمايزات الطائفية وما قد تُستغل لأجله، ولا يمكن الحديث عن السودان دون التعرض لمسألة الشمال والجنوب، وفي بعض دول المغرب الكبير قضية العرب والبربر أو الأمازيغ، وغير ذلك من دول وكيانات عربية لا تخلو من مثل هذه الفروق وما تحدثه من توترات، إذ إن التجانس المطلق في أي كيان، مسألة هي إلى الاستحالة أقرب، بل هي الاستحالة ذاتها، كما أن فرض التجانس الشكلي على ما هو غير متجانس حل فاشل لمشكلات الكيان والمجتمع. والمسألة حقيقة ليست في وجود أو وجود عدم التجانس، ولكنه في قدرة النظام السياسي على إضفاء عباءة على التعددية الطبيعية الموجودة بحيث يخلق نوعاً من تجانس لا تغيب أو تذوب فيه الفروق والتمايزات ويدوم الاستقرار، بدلاً من تجانس مفروض هو المهدد للاستقرار على المدي البعيد، كما لاحظنا في الإمبراطوريات الدارسة من خلال التطبيق الفعلي لمبدأ المواطنة المتساوية بأكبر قدر ممكن من ناحية، ومرونة ذات النظام بحيث يمكنه استيعاب أي تطور محتمل قد لا تحمد عقباه، نتيجة تلك الفجوة المتحدث عنها بين الشكل الذي يُعلن به النظام عن نفسه، وبين المضمون الذي قد يتناقض مع العنوان، وهو متناقض في كثير من دول العرب، ولعل السودان وما هو مقبل عليه من مصير أبرز مثال اليوم، وليس السودان فقط، فإن عالم العرب ليس بمعزل عن تلك التطورات السلبية التي انفجرت وتنفجر في هذا البلد أو ذاك، رغم القول بالخصوصية والذاتية وخاصة حين يتعلق الأمر بشأن سياسي..هذا وطابت لكم الحياة.