د.عبد العزيز السماري - الجزيرة السعودية قد تكون أحكام الفقه في يوم ما في المستقبل مقياساً لأحوال المجتمع ومراحل تطوره من حال إلى حال، ومن أجل أن نصل إلى ذلك المعيار علينا أولاً أن نتفق على أن بعض أحكام الفقه في العصر الحديث لم تكن بأي حال تمثل الاجتهاد الديني المحض، لكن أملتها تقاليد المجتمع ومصالح قواه الطبيعية، فعلى سبيل المثال لم يكن فرض غطاء الوجه للمرأة في الجزيرة العربية حكماً دينياً صريحاً، فقد ثبت القول إن الحرائر يغطين وجوهن قبل وبعد الإسلام، وثبت أن الأمة (الجارية) إذا تقنعت أو أدنت جلبابها على وجهها، مُنعت قبل وبعد الإسلام لأنها بذلك تتشبه بالحرائر. قبل عقود قريبة كانت بعض فئات المجتمع ترفض وضع صورة فوتوغرافية في بطاقة الهوية الوطنية، ومنذ أقل من عقد كان نصف المجتمع بلا هوية، والسبب كان تحريم تصوير وجه الإنسان وظهوره في البطاقة، وفي استجابة لمطالب الأمن الوطني تم قبول ظهور صورة الرجل في الهوية، لكن وجه المرأة السعودية بسبب اعتباره عورة تم حجبه لعقود، ولا يزال يتعرض للمطاردة في الحياة العامة.. على الرغم من قبول هذه الفئة المحافظة ظهور وجه المرأة الأجنبية في بطاقة الإقامة عند العمالة المنزلية، الذي قد يمثلون نسبياً ما كانت تمثله الجواري في سابق الأزمنة. لا يمثل هذا الرأي الفقهي الدين المحض، فقد كان تحريم كشف وجه المرأة كناية عن رفض ثقافة الشفافية عند بعض الفئات، لأن في كشفه كشف لعار هؤلاء الرجال، فالمجتمع الذكوري المستبد يرفض الكشف عن التفاصيل، ويخفيها من خلال الستر أو القناع الذي يخفي عيوبه وملامحه، تماماً مثل إخفاء أسارير الحرائر في المجتمع العربي القبلي القديم، في حين يجوز كشف تفاصيل وجوه وأجساد الجواري في الأسواق.. وذلك لأن المجتمع التقليدي والمتخلف يضع حداً فاصلاً للشرف، أعلاه غطاء وجوه الحرائر أو المواطنات، وأدناه كشف وجوه الجواري أو العاملات المنزلية....! كانت المرأة ترمز للعيب في المجتمعات العربية المحافظة، وتتسع دائرة قانون العيب لتشمل غطاء وجوه النساء ومنع الرجال ذكر أسمائهن أمام الرجال الغرباء، فقد كانت عورة في كل شيء، وكانت عباءتها ولونها الأسود تمثل المسكوت عنه بكل ما تعنيه الكلمة، الذي يكاد يخفيها تماماً عن التعرف على هويتها.. ولم تكن تلك الرؤية الفقهية السوداء تجاه المرأة إلا استجابة لمطالب الذكور الأقوياء، فقد كان العار يمثل شرف العائلة والقبيلة، وكانت المرأة رمزه وضميره.. كانت الأحكام الفقهية في السابق تراعي مصالح الرجل وشرفه وتقاليده ومتعته، ولعل إصرار بعض الفقهاء على جواز تزويج القاصرات لرجال بالغين دليل على ذلك، لكن في عصر الرأسمالية يبدو أن تغييراً قد حدث، فقد تبدلت بعض مواقف الفقهاء، وأصبحت تخدم منافع المستثمرين سواء في البنك الربوي أو في خدمات السباحة أو في كرة القدم.. وقد يرى البعض ذلك من باب التطور وجلب المنافع والمصالح، لكنه لا يخلو من مراعاة المصالح الكبرى.. والدليل الانقلابات الكبرى عند بعض الفقهاء المعاصرين. إشكالية الفقهاء المعاصرين أنهم يسايرون نتائج الانتخاب الطبيعي في المجتمع التقليدي، فهم إما مع قاعدة التيار التقليدي المحافظ أو مع فورة التيار الاقتصادي الليبرالي، في حين أن الناس ينتظرون منهم أكبر من ذلك، فدور الفقهاء يجب أن يكون أكثر تقدماً من ذلك، وعليهم أن يبدأوا مرحلة تسجيل وتقنين الأحكام الفقهية، التي تساوي بين الجميع، وتنطلق من المبدأ القرآني الخالد (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ)، وتخضع لمبدأ الثابت والمتغير، فالثابت الذي فيه الدليل القطعي لا اجتهاد فيه، بينما في المتغير تتطور الأحكام الفقهية.