جاسر عبد الله الحربش - الجزيرة السعودية التهمة جاهزة، بل هي خزنة قذائف كاملة من التهم. التغريب، الغزو الفكري، العمالة للخارج، التفريط في الثوابت.. وعلى هذا المنوال قس مما تجود به مفردات المحرضين المفوهين. المتهِم (بكسر الهاء) يعرف أن المتهَم (بفتح الهاء) ليس تغريبياً ولا مفرطاً في الثوابت، وليس عميلاً للخارج ولم يسلم قط عقله لا لغزو فكري ولا أخلاقي، وأنه مجرد شريك في الوطن بكل مكوناته الدينية والمادية. الفرق بين الإثنين هو أن المبادر بالاتهام لا مصلحة معيشية له في التقدم إلى الأمام. مصلحته مضمونة في الثبات في الزمان والمكان، حيث يتمتع بامتيازات تقليدية بدأت الضرورات الشرعية والمعيشية تعيد النظر في استحقاقات أكثرها، وبالتأكيد ليس فيها كلها، لكنه يريدها كلها بالكامل. الفرق أيضاً هو أن مستقبل الاتهامات سبق صاحبه في إدراك أن التقدم إلى الأمام هو المخرج الوحيد من التبعية والبلادة الاستهلاكية حتى آخر برميل نفط، ثم الموت عطشاً وجوعاً. كما أنه مقتنع أن هذا التحرك في النهاية يصب في مصلحة الطرفين الثابت منهما والمتحرك. يبقى ثمة فرق جوهري آخر بين المتهِم والمتهَم هو أن الأول فيما يفضل المصلحة الآنية الخاصة يضع عاطفته قبل عقله ويصوب نظره إلى الخلف بينما الآخر فيما يتوخى مصلحةً شاملةً يحكم عقله ومداركه ويصوب نظره وكل مجساته الفكرية إلى كل الجهات الأربع، وبالذات إلى الأمام. إن حدث لك وتورطت في نقاش مع شخص آخر قد وضع في دماغه من البداية أنك تغريبي فقد بوصلته الدينية والحضارية فاحذف من يده عجلة النقاش نحو الشرق، أي نحو ماليزيا أو الصين مثلاً. قل له إنك تتوخى في منظورك وطموحك التطوري النموذج الصيني أو الماليزي لأن الغرب في نظرك مادي فاقد روحه، غاطس إلى آخر شعرة في رأسه في الجنس والملذات الدنيوية. أكد له أن الغرب أصبح بلا روح وسائر في درب الهلاك لدرجة أنه يرسل المسابر والمركبات الفضائية لاكتشاف الكون ولمحاولة الهبوط على المريخ وما جاوره لاستشراف عناصر وإمكانيات الحياة هناك. قل له: إن الغرب لم يتوقف عن عبثه العلمي بتخريب الأرض وسكانها فانطلق إلى الفضاء محاولاً نزع الثوابت من قلوب سكان الكواكب الأخرى المحتملين. بعد أن تطمئن إلى أن محدثك قد هدأ روعه وبدأ يستبشر بسيطرته العقلية والفكرية عليك فاجئه مرة أخرى. قل له بحماس إنك قررت أن تصبح تشريقياً وليس تغريبياً، أي أنك تحاول البحث عن بوصلة وبرنامج للتقدم إلى الأمام في النموذج الماليزي أو الصيني مثلاً، أي في النماذج الشرقية وليس الغربية. ماذا تلاحظ ؟ هل لاحظت شيئاً ؟. نعم، ملاحظتك صحيحة، بدأ لون صاحبك يمتقع ووجهه يمتعض منك مرة أخرى. لم ينعم صاحبك طويلاً بمتعة الشعور بالسيطرة عليك لأنه أصبح يخاف من فقدان أثمن وأقوى ورقة في جعبته يلعب بها على عقول الناس.. ورقة التغريب. ومع ذلك، لا تستسلم بسرعة لاعتقادك ببوادر اهتزاز في قناعاته الشخصية وفي نظرته إليك. لا تنس أنه إنسان ثابت، بل شديد الثبات لدرجة الخلط بين الشرعي الواضح الذي لا خلاف عليه وبين العادات والتقاليد والآراء الخلافية المعطلة. لذلك، ولأنه هكذا، عليك أن تتوقع أن يبادرك صاحبك باتهام النموذج الصيني والماليزي بأنه تغريبي أيضا ً لأن أسسه العلمية مقتبسة من الغرب. إذا بدأ صاحبك هكذا يتهم الشرقيين الآخرين أيضاً بالتغريب وكل الذين نجحوا في الانتقال من العزلة الحضارية والاستهلاكية البليدة إلى الانتشار والإشعاع والرخاء، حينئذ يتوجب عليك أن تتوكل على الله وتتحرك إلى الأمام. دعه يبقى في مكانه حتى يغير رأيه أو يدفع الثمن من مستقبله الشخصي، لكن ليس على حساب الوطن.