بقلم/ د.خالد بن سعود الحليبي - اليوم السعودية من أكبر دواعي التراجع في درجة تأثير الداعية مع استمرار بذل الجهد، ذنوب الخلوات، ونقض العهد مع الجبار تبارك وتعالى، فإنهما القاصمتان، يذهبان نور العمل، ويورثان قسوة القلب، وأنَّى لعمل مظلم أن يشع، فضلا عن أن يضيء، وأنى لقلب قاس أن يتحرك هو، فضلا عن أن يحرك قلوب الآخرين. قال أبو الوفاء بن عقيل: «يا من يجد في قلبه قسوة، احذر أن تكون نقضت مع الله عهدا، فإن الله يقول: {فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية}». وليس للداعية من زاد يقويه على نصب الطريق وطوله، مثل التقوى، وإشراقة الطاعة في نفسه. وعليه فلا بد إذن من الاعتراف بالتقصير، وصدق من قال:»طوبى لمن أنصف ربه فأقر بالجهل في علمه، والآفات في عمله، والعيوب في نفسه، والتفريط في حق ربه، والظلم في معاملته، فإن آخذه بذنوبه رأى عدله، وإن لم يؤخذ بها رأى فضله، وإن عمل حسنة رآها من منته وصدقته عليه، فإن قبلها فمنة وصدقة ثانية، وإن ردها فلكون مثلها لا يصلح أن يواجه به، وإن عمل سيئة رآها من تخليه عنه، وخذلانه له، وإمساك عصمته عنه، وذلك من عدله فيه، فيرى في ذلك فقره إلى ربه، وظلمه في نفسه، فإن غفر له فبمحض إحسانه وجوده وكرمه». هكذا ينبغي أن تكون علاقة الداعية المشارك في معالجة النوازل بخالقه وسنده، وإلا فلا سند له ولا معين، مهما احتشد له من المعجبين والنظارة، والعجيب أن بعض الدعاة يتخذ من هؤلاء حاجزا من الغرور عن رؤية نفسه كما هي، وهو الأكثر معرفة بنفسه وتقصيره منهم. يقول ابن القيم رحمه الله: «سبحان الله.. كم من قلب منكوس وصاحبه لا يشعر، وكم مفتون بثناء الناس عليه، ومغرور بستر الله عليه، ومستدرج بنعم الله عليه، وكل هذه عقوبات وإهانة، ويظن الجاهل أنها كرامة». ولذلك فإن هذا المغرور يظن الابتلاء الذي يقع به بسبب مكانة عظيمة له عند الله عز وجل، ولذا يسارع بالاستشهاد بقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: «أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة»، وما درى المسكين أنه بذلك يزكي نفسه، وينسى خطيئته، وهما المزلتان، وليس بعدهما إلا التضعضع والتقهقر، واضمحلال الأثر. وكيف لا وإن من عقوبات المعاصي «تضعف سير القلب إلى الله والدار الآخرة، فلا تدعه يخطو إلى الله خطوة، فالذنب ينكس الطالب، والقلب إنما يسير إلى الله بقوته، فإذا مرض بالذنوب ضعفت تلك القوة التي تسيره، فإذا زالت بالكلية انقطع عن الله انقطاعا يبعد تداركه» هكذا رأى ابن القيم بحسه الرفيع، ومباضعه الدقيقة، ومَحَضَنَا النصح دون أية مجاملة؛ لأن «من الاغترار أن تسيء فيحسن إليك، فتترك التوبة توهما أنك تسامح في العقوبات» كما قال أبو علي الروذباري رحمة الله عليه. وهو الفقه الذي عاش به الصحابة فسموا به فوق جواذب الدنيا ومغرياتها، حتى أصبح معيارهم وميزانهم، فحين شُتِمَ سلمان الفارسي قال: «إن خفَّت موازيني فأنا شر مما تقول، وإن ثقلت موازيني لم يضرني ما تقول» علق أبو حامد الغزالي على هذه الجوهرة فقال: «كان همه مصروفا إلى الآخرة، فلم يتأثر قلبه بالشتم». و»من صَفا صُفِّيَ له، ومن كَدَّر كُدِّرَ عليه، ومن أحسن في ليله كوفئ في نهاره، ومن أحسن في نهاره كوفئ في ليله». مطلق العدل الإلهي، كما قرر أبو سليمان الداراني. إن الداعية وهو يقوم بأعظم مهمة في الوجود لا يستغني عن التزود من رحيق التقى، ولست ترى أمرا أكثر منفعة له من مجالسة محبي الدعوة، بل عاشقيها؛ يرى مكانه منهم، فيعلم تقصيره حين يرى منهم ما لم يقدر عليه؛ لضعفه، أو لعجزه، أو لقلة تدبيره. يقول ابن عائشة رحمه الله: « مجالسة أهل الديانة تجلو عن القلوب صدأ الذنوب، ومجالسة أهل المروءات تدل على مكارم الأخلاق، ومجالسة العلماء تزكي النفوس»، وقد تجتمع هذه الفضائل في إنسان؛ فتكون مجالسته أشد قيمة من غذائه وشرابه.