لا بد من الاعتراف أولاً بأنني كنت أول من اخترع مصطلح "الليبراليون العرب الجدد" لأشبع الذين ينعتون أنفسهم ب"ليبراليين" نقداً وتجريحاً وتشنيعاً. لقد قلنا بالليبراليين ما لم يقله مالك في الخمر، وما زلنا. لكن، والحق يقال، إن لبعض الليبراليين من بعض اسمهم نصيباً. فهم أقل حقداً وغلاً مع معارضيهم من أتباع التيارات القومية والإسلامية بعشرات المرات، وأكثراً قبولاً للرأي الآخر. وهذا لا يعني أبداً أنني بت أتفق مع كل الأطروحات الليبرالية. بدأت بالكلام أعلاه للحديث عن ردود فعل بعض القوميين والإسلاميين عندما تختلف معهم في الرأي، أو يزل لسانك يوماً بالنقد لتوجهاتهم، فتسقط عليك نار جهنم لمجرد أنك تفوهت بعبارة يتيمة ضدهم، كأن تصف المنتسبين إلى أحد الاتحادات العربية القومية بأنهم جبناء أحياناً، فيصطادون لك تلك الكلمة، ويبدأون بشحذ سكاكينهم الطويلة لطعنك في أقرب مناسبة خبط عشواء. فبسرعة البرق ينسى إخواننا القوميون العيش والملح والأفكار والهموم والقضايا المشتركة الكثيرة، ويحشرونك على الفور في خانة الأعداء والصهاينة والإمبريالية. وهذا ما فعله بالضبط أحد الإخوة "القوميين"، فلمجرد أن ضيفاً انتقد "اتحاده" على الهواء مباشرة بحضوري، حلت علي أنا كل اللعنات، لأصبح بين لحظة وأخرى عميلاً وصهيونياً وماسونياً ومنبطحاً إلى آخر قائمة التخوين المعهودة التي يستخدمونها منذ خمسينيات القرن الماضي دون كلل أو ملل، رغم أن الشعوب باتت تقرف سماعها لكثرة ما استخدموها زوراً وبهتاناً ضد كل من يختلف معهم حتى حول أسعار البطاطا. والغريب في الأمر أن الأخ يريد معاقبتي لأنني لم ألجم الضيف الذي انتقده. بعبارة أخرى فأنا متهم وصهيوني وعربيد ليس لأنني، لا سمح الله، انتقدت رئيس الاتحاد مباشرة، بل لأنني سمعت الانتقاد وسكتت. وهذا ما يذكرني ببعض الأنظمة العربية التي لا تعاقب الناس على كلام قالوه بل على كلام سمعوه! فالويل لك أن تسمع انتقاداً لحاكم عربي وتبقى صامتاً، فالصمت "ممنوووووووووع" منعاً باتاً. ومن المدهش جداً أن أولئك "العروبيين" ينسون لك كل الإيجابيات بلمح البصر، فلا يقبلون أبداً بأن تكون متفقاً معهم ثمانية وتسعين بالمائة، بل يجب أن تكون منسجماً مع خطابهم مائة بالمائة، والويل والثبور وعظائم الأمور فيما لو زلت النسبة شعرة واحدة. وأتذكر أنني كنت معجباً من الناحية الإعلامية بأحدهم وبعنفوانه التليفزيوني الرهيب. وكان الرجل لا يترك مناسبة إلا ويسرف في كيل المديح لي. لكن وبمجرد أن سألت ذات مرة سؤالاً ليس في صالحه كي أخلق نوعاً من التوازن في النقاش، أصبحت على حين غرة عدواً مبيناً لذلك الأخ "القومي" جديراً بكل أنواع الهجاء والتجريح والشيطنة. وكي لا تعتقدوا أنني أبالغ، سأقتطف بعضاً من أحد بياناته النووية بحقي والموسوم: "فيصل القاسم وعملاء الأرض المحروقة". يقول الأخ القومي في هجائيته: "أنت يا فيصل قائد الحملة القاسمية الإعلامية المعاكسة ضد الأمة العربية...ولن يزيدنا انتقاد العملاء والخونة والفاشيين والنازيين الجدد لنا إلا صبراً وإصراراً وعزيمة... وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون... ولا نامت أعين الجبناء". لاحظوا أن كاتب هذه الكلمات كان قبل أسابيع قليلة فقط يعتبر العبد الفقير "رمزاً قومياً"، لكنه سرعان ما راح يهدده تهديداً مباشراً "بالمنقلب" الذي سيقلبه فيه غير مأسوف عليه. وما ينسحب على "القوميين" ينطبق بنفس الدرجة على بعض الإسلاميين، فهم أيضاً يعملون بمقولة من ليس معنا مائة في المائة فهو ضدنا. وأتذكر يوماً أنني حضرت مؤتمراً شارك فيه مجموعة كبيرة من النشطاء الإسلاميين، وبمجرد ما دخلت القاعة حتى احتشد المشاركون حولي، وراحوا يكيلون لي ما لذ وطاب من المديح، لا بل إن بعضهم راح يمسح بيده على جاكيتي قائلاً: والله إنني أتوسم بك خيراً، فاحمر وجهي لأنني لم أكن أتوقع ذلك الاستقبال الحار جداً. ثم أخذني أحد المشاركين الكبار جانباً وقال: "إننا نحب فيك غيرتك ووطنيتك على الأمتين العربية والإسلامية، لكن كي تكمل المعروف عليك فقط بأن تغير في مظهرك قليلاً"، فابتسمت طبعاً، وشعرت بقدر كبير من الغبطة لأنني أرضي قطاعات كبيرة ومهمة على الساحتين العربية والإسلامية. ومرت أسابيع ليتكرر السيناريو الذي حصل لي مع القوميين، فقد ظهرت معي سيدة انتقدت الإسلاميين انتقاداً لاذعاً، فقمت أنا بمقاومتها بعنف بوابل من المقاطعات والأسئلة. ولم أكن متفقاً معها بأي حال من الأحوال. لكن ذلك لم يشفع لي أبداً، ليصبح رأسي مطلوباً بين ليلة وضحاها. وقد وصل الأمر بالشخص الذي أخذني جانباً في ذلك المؤتمر، وطلب مني أن أجري بعض التغيير على مظهري إلى إهدار دمي. بعبارة أخرى فقد لحس كل مديحه وإطرائه لي خلال أيام معدودات لأصبح زنديقاً جديراً بالرجم على أقل تقدير. وتوالى الهجاء لي في المواقع الإسلامية، فلا أفتح موقعاً إلا وأواجه تهم التكفير من كل حدب وصوب، مع العلم أن المواقع ذاتها كانت تعتبرني قبل أيام فقط "سنداً عظيماً لحركات المقاومة". سبحان مغيّر الأحوال! على العكس من القوميين والإسلاميين، وجدت أن الليبراليين الذين ناصبتهم أشد العداء الفكري يكتبون مقالات يدافعون فيها عني دفاعاً مستميتاً في اللحظات الحرجة، مما جعلني أشعر بالخجل من مواقفي السابقة تجاههم. وكي لا يعتقد البعض أن كل الليبراليين سواء، لا أبداً، فبعضهم ما زال مصاباً باللوثة القومية، بحيث لا يستطيع تحمل كلمة انتقاد، فيشتعل حقداً تماماً كأخينا رئيس الاتحاد "القومي" أعلاه، فيرميك بكل ما يتوفر لديه من سهام مسمومة. متى يتخلص الإسلاميون والقوميون من استعدائهم للآخر لأتفه الأسباب؟ ألم يخسروا الكثير من المتعاطفين والمؤيدين بسبب عقليتهم الإقصائية القائمة على التكفير والتخوين المجاني؟ متى يعملون بمبدأ: "ما لا يُدرك كله لا يُترك جله"؟ متى يدركون أن من يؤيدهم اثنين وخمسين بالمائة، ويختلف معهم ثمانية وأربعين بالمائة يجب أن لا يعتبروه عدواً مبيناً، فما بالك إن أيدهم أكثر من ذلك بكثير؟ متى يتوقفون عن خوض حروب داحس والغبراء عمال على بطال؟. أرجو ألا يُفهم من هذا المقال إنني أحاول تبرئة الليبراليين وتجريم القوميين والإسلاميين. لا أبداً. كل ما أتمناه أن تأخذ التيارات الفكرية أفضل ما عند غيرها، كأن يأخذ القوميون والإسلاميون من الليبراليين التسامح وقبول الرأي الآخر والابتعاد عن التخوين والتكفير بسبب أبسط خلاف (مع الاعتراف أن بعض الليبراليين المزعومين أكثر تطرفاً وتشدداً وتزمتاً من غلاة الإسلاميين والقوميين)، وأن يأخذ الليبراليون من القوميين والإسلاميين الحقيقيين الغيرة على الهوية وعدم الافتتان بالغربي والنيل من كل ما هو عربي وإسلامي بمناسبة ومن دون مناسبة.