ماذا صنعت بنفسي؟! بقي بضع ساعات على سفر ابني الكبير- الصغير عبدالله في طريقه لدخول مدرسة داخلية في كندا، وهو ابن ثلاثة عشر ربيعاً. خلال اكثر من تسعة اشهر وأنا ارتب لسفره، بعد ان اقتنع بالفكرة، لكن الأمر الآن بدا كما لو كنت اسعى بيدي لحتفي! هل دبرت بيدي ما يؤذيني؟! لا أضحك حتى استلقي الا عندما يطلق عبدالله سخريته على الاشياء والناس من حوله. انه ساخر من طراز عالٍ، وبصبغة انسانية. لديه قدرة عجيبة على اطفاء نيران الحرائق التي قد تشب عندي او عند أمه بسبب ما نعتبره خطأً أو تقصيراً أو تجاوزاً، بطرفة هنا، أو نكتة هناك، تصل لحد السخرية من نفسه. قال له أحدنا يوماً: الشرهة عليك. فرد فوراً: "انا مستغرب منكم انتم عقلاء كيف تشرهون علي وانا ما ينشره علي"! انفرطنا في ضحك انسانا القصة وبلل الغضب بالندى. كنا متجلدين سوياً، أمه وأنا، مي ذات الاعوام العشرة، وعبدالعزيز ذو السبعة أعوام. صباح اليوم بكت مي حتى خفت عليها، ولم تجد ادفأ حضنا من عبدالله الذي ضم شقيقته وانا اتابع المشهد كأبله. يتابع عبدالعزيز بإدمان، ثم يعلق: أنا بكيت أمس! كنت قد احضرت (لابتوب) لعبدالله، ففتحه بلهفة في الصباح وقال كالعادة، بعد ان طبع قبلتين على جبيني ويدي: كثر خيرك يا بابا. رائع، مع اني قلت لك اني ما احتاجك. كان ما كلفت حالك يبه. اثر ذلك كان عبدالعزيز ينتهز لحظات يسرقها من متابعة جديد عبدالله، فينقلب وجهه الصغير كتلة من ألم، وتغرورق عينيه بدموع يسعى لإخفائها جاهداً. ناديته وسألته لم تبك؟! ظننت ان ذلك بسبب حصول عبدالله على كمبيوتر محمول جديد، وهو لم يحصل على مثيل له! قال لي: أبكي لأن عبودي بيروح لكندا! قلت له: لكنك لم تبك قبل ان اعطي عبدالله اللابتوب! قال: الحين حسيت انه صدق بيسافر! حسناً يا صغاري... اتسوطونني مجدداً؟! لأني رافع راية القرار المؤلم بسفر عبدالله! تتجلد أشواق، حتى أزف السفر، فتنتابها نوبات بكاء تجاهد لإبقائها خاصة بها. وتنفجر مرة تحت تأثير اللحظة. ربيت ابني حتى اذا اوشكت على قطف زهرته انتزعتَهُ مني. تبعث لي برسالة عبر الموبايل: الله يربط على قلبي، فتنساب قصة موسى : ( وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً إن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها). أتراني أضع صغيري بيدي في اليم؟! سألت عبدالله أول ما برقت الفكرة عن رأيه. القى بسخريته فقال: مستعد للذهاب شرط أن لا يفرضوا علينا (يونيفورم). قلت له: ما مشكلتك مع الزي الرسمي؟! قال لي: أحس بأن الطلبة جملة من الجرسونات في مطعم كئيب يا بابا. ثم ان اليونيفورم يقتل الابداع والابتكار في انتقاء الملابس لدى كل فرد. قلت له: ابو عابد، اذا احببت شيئا سقت له المبررات تلو المبررات، وان لم تحبه جمعت عذاريب الدنيا فيه. ابتسم وقال: مشكلتي ان ابوي فاهمني. انتقلنا للحديث الجاد. سألني: لماذا تريد ان ترسلني لمدرسة داخلية في كندا؟! قلت له: لم يقصر والدي معي. لكني احاول ان افعل معك ما أتمناه لنفسي. لم تكن الدراسة في الخارج ضمن خارطتي انا ووالدي. الظروف مختلفة يا بابا، وانا اريد ان احقق لك ما لم يتحقق لي. اجاب على الفور: توكل على الله يا بابا. ظننت اني سأحتاج لوقت أكبر في إقناعه. تحولت الأيام التالية بانسيابية إلى خوض في اجراءات الحصول على موافقة الكلية، ومهر الجوازات بالتأشيرات. لم يؤلمني شيء كعبارة زوجتي. هل أنا أنتزع ابنها من مزرعة قلبها؟! اردت بعد تلك الكلمة أن أناقشها، وليتني لم أفعل. قالت لي: تزوجت صغيرة. قضيت معظم حياتي متغربة في مدن لا أعرف فيها أحد. اطفأت غربتي بقربي من أطفالي. انهم لي أهلي وأصدقائي. لماذا تريد ان تبث في الغربة من جديد؟! أحيانا يقول المرء ما لو سكت عنه لجنب نفسه شروراً. بالأمس ونحن على مائدة الافطار، قلت لعبدالعزيز. هاه ابو العز، مستعد تلحق عبدالله؟! متى تبي تروح تدرس بكندا. اشار بثقة الى السنة الرابعة. انخرطت اشواق في بكاء ثم لجمت دموعها من جديد. قلت لعبدالله قبل يومين: ألم يخالج اصرارك على السفر شك؟ ألم يخطر ببالك أن تتراجع؟! رد: حصل هذا بنسبة واحد في المئة. لكني كنت ادفعه بأني سأذهب هناك، واعزز نفسي، ستكون خياراتي بيدي. هذه فكرة اتشوق لها. بعد اثنى عشر ساعة سنركب طائرة تبتعد بكبيري وصديقي عبدالله الى حيث حياة جديدة. سأفتقد التعليقات الساخرة. وارجو أن انتظرها بعد اشهر وهي اكثر سخرية واعمق نضجاً... انها فسحة الأمل التي نلجأ اليها، ولولاها لقتلنا الضيق: اعلل النفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل