انباؤكم - سعد بن عبد القادر القويعي شكرا خادم الحرمين الشريفين أن أعدت للفتوى منزلتها الجليلة , ومكانتها السامية العظيمة . وشكرا أبا متعب حين كرست الثقة بكبار علمائنا , وأعمدة فتوانا , بعد أن تحولت الفتوى إلى فوضى , حين طلبت وسائل الإعلام الفتوى ممن ليس أهلا لها . فالتنصيب للإفتاء , أو الحجر مناط بولي الأمر , وهذا من أهم ضوابط الفتوى . وهو - بلا شك - جزء من مشروع ترشيد الخطاب الديني . كم كانت الحاجة شديدة إلى ضبط الفتوى , وتوحيد مرجعيتها , وسد الباب أمام الفتاوى الشاذة . التي لم تراع المصالح والمفاسد , ولم تراع المآلات في الأقوال والأفعال , كما لم تراع التوازن بين الكليات والجزئيات . ناهيك عن جهلهم بالأدلة وأنواعها , واختلاف مراتبها في دلالتها , وكيفية استنباط الأحكام منها , وطرق الترجيح فيها . وللأسف , فإن هذه الفتاوى الشاذة , والآراء المرجوحة , شتتت ولم توحد , وفرقت ولم تجمع , وشوهت صورة ديننا , وأساؤا إلى سمعة علماءنا ومؤسساتنا الشرعية . وانطبق عليهم قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ... اتخذا الناس رؤوسا جهالا , فأفتوا بغير علم , فضلوا وأضلوا " . مع أن هؤلاء , ممن فًتح لهم باب الإمامة , أو الخطابة , أو الوعظ , أو غير ذلك , فاعتقدوا أنهم مؤهلين للفتوى , فتعدوا صلاحياتهم , وتجاوزوا أنظمة الدولة , وشككوا في اضطلاعها بمسؤولياتها . إن الحجر على قليلي البضاعة في أحكام الشرعية , من الذين قفزوا على أمور الدين من الثوابت والمبادئ , من أهم أولويات الإمام . - ولذا - قال الخطيب البغدادي - رحمه الله - : " ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين ، فمن صلح للفتوى أقره ، ومن لا يصلح منعه ، ونهاه وتوعده بالعقوبة إن عاد " . ثم قال : " وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتيا , أن يسأل عنه علماء وقته ، ويعتمد أخبار الموثوق بهم " . وقال ابن القيم - رحمه الله - : " من أفتى وليس بأهل فهو آثم ، ومن أقرهم من ولاة الأمور فهو آثم أيضاً ". وقال أبو الفرج ابن الجوزي - رحمه الله - : " ويلزم ولي الأمر منعهم ... وهؤلاء بمنزلة من يدل الركب ، وليس له علم بالطريق ... وبمنزلة من لا معرفة له بالطب , وهو يطبب الناس ، بل هو أسوأ حالاً من هؤلاء كلهم ، وإذا تعين على ولي الأمر منع من لم يحسن التطبيب من مداواة المرضى ، فكيف بمن لم يعرف الكتاب والسنة , ولم يتفقه في الدين " . ثم نقل عن شيخه ابن تيمية - رحمه الله - قوله : " وكان شيخنا شديد الإنكار على هؤلاء ، فسمعته يقول : قال لي بعض هؤلاء : أجعلت محتسباً على الفتوى ؟ ! فقلت له : يكون على الخبازين والطباخين محتسب ، ولا يكون على الفتوى محتسب ؟ ! " . وقد ذكر الكاساني في بدائع الصنائع , : '' روي عن أبي حنيفة - رحمه الله - , أنه كان لا يجري الحجر إلا على ثلاثة : المفتي الماجن ، والطبيب الجاهل ، والمكاري المفلس ؛ لأن المنع عن ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن المفتي الماجن يفسد أديان المسلمين ، والطبيب الجاهل يفسد أبدان المسلمين , والمكاري المفلس يفسد أموال الناس في المفازة ، فكان منعهم من ذلك من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر '' . ومن أجمل ما قرأت في شروط المفتي , من كتاب " الفروق " - للإمام - شهاب الدين القرافي المالكي - رحمه الله - , في الفرق الثامن والسبعون , الفرق بين قاعدة : من يجوز له أن يفتي , وبين قاعدة : من لا يجوز له أن يفتي , قال : " فالناس مهملون له إهمالاً شديداً ، ويقتحمون على الفتيا في دين الله تعالى , والتخريج على قواعد الأئمة من غير شروط التخريج , والإحاطة بها ، فصار يفتي من لم يحط بالتقييدات , ولا بالتخصيصات من منقولات إمامه ، وذلك لعب في دين الله تعالى , وفسوق ممَّن يتعمده ، أوما علموا أن المفتي مخبر عن الله تعالى ؟ ! وأنَّ من كذب على الله تعالى , أو أخبر عنه مع عدم ضبط ذلك الخبر , فهو عند الله تعالى بمنزلة الكاذب على الله ؟ ! فليتق الله تعالى امرؤ في نفسه , ولا يقدم على قول , أو فعل بغير شرطه " . ونقل عن ربيعة بن أبي عبدالرحمن شيخ مالك ، حيث رؤي أنه يبكي ، " فقيل : ما يبكيك ؟ فقال : ظهر في الإسلام أمر عظيم ! استفتى من لا علم له ، ثم قال : من يفتي بغير علم أحق بالسجن من السراق " . وقد علق بعض ابن القيم - رحمه الله - , فقال : " فكيف لو رأى ربيعة زماننا ، وإقدام من لا علم له على الفتيا , وتوثبه عليها ، ومد باع التكلف إليها ، وتسلقه بالجهل والجرأة عليها , مع قلة الخبرة وسوء السيرة وشؤم السريرة ، وهو من بين أهل العلم منكر , أو غريب " . هذه الحقيقة التاريخية التي وردت في البيان , بأن : " من يتجاوز هذا الترتيب , فسيعرض نفسه للمحاسبة والجزاء الشرعي , كائنا من كان , فمصلحة الدين والوطن فوق كل اعتبار " . ذكرتني بقصة مماثلة , وموقف مشابه , ذكرها - الدكتور - ناصر بن زيد بن داود عن والده - رحمه الله - قصة ذات عبرة ، ودليل حنكة , وتمرس في معالجة الأمور الداخلية ، وبرهان تضلع في إدارة الأمور , ومعالجتها , وحسم مادة الشر قبل ظهورها وشيوعها . يقول رحمه الله : في اليوم الذي توفي فيه مفتي الدولة السعودية في وقته - الشيخ - محمد بن عبد اللطيف آل الشيخ - رحمه الله - , في العام " 1367ه " , سار في جنازته حشد كبير من الأمراء والمشايخ ، وعلى رأس الجميع جلالة المؤسس المغفور له - بإذن الله تعالى - الملك عبد العزيز . يقول والدي : بعد الصلاة ودفن الشيخ , عاد الحشد إلى قصر الإمارة ، وكان عدد المشايخ وطلبة العلم السائرين في جنازة الشيخ , يكاد لا يحصى ، وكان شارع البطحاء - الحالي - لا يزال على حاله وادياً ومجرى للسيل , تملأه الحجارة الصغيرة ، وقبل أن يصلوا إلى الطريق المؤدي للقصر , أوقف الملك عبد العزيز هؤلاء الجمع , وقام فيهم خطيباً ، فحمد الله وأثنى عليه , واسترجع من مصيبة فقد الشيخ - غفر الله له - ، ثم أفاد بلزوم تعيين من يخلف الشيخ ، وأن ذلك سوف يعلن - خلال - ثلاثة أيام ، ثم علا صوته - رحمه الله - واحمرت وجنتاه ، وأقسم بالله إن بلغه من أحد من الحضور فتوى , أو رأي قبل تعيين المفتي القادم ؛ لأقطعن لسانه , ولأجعلنه أدباً لغيره . يقول والدي : إن الملك عبد العزيز مهيب الجانب حتى وهو يضحك ، فكيف به وهو غاضب في يوم عزاء ! . لقد وجم الناس ، وخيم عليهم الصمت ، وعرفوا معنى ما يقوله ذلك الأسد الهصور , والليث المزمجر . ولم تمض - الثلاثة أيام - حتى أعلن الديوان الملكي , تعيين - الشيخ - محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتياً عاماً للدولة , ورئيساً للقضاة . إن سن مشروع يضبط إصدار الفتاوى , ويقننها ؛ لقطع الطريق أمام من تصدر الفتوى من غير أهل العلم , والحجر على كل مفت جاهل تجرأ على الفتوى بغير علم , يدفع عنا تصادم النصوص , كما يدفع عنا تصادم الذوق العام والفضيلة والفطرة . فالفتوى ليست إبداءً لرأي شخصي , أو تحكيما لعقل مجرد , أو استجابةُ لعاطفة نفسية , أو تحقيقا لمصلحة شخصية متوهمة . بل هي إخبار عن حكم الله بالدليل لمن سأل عنه , والمفتي هو المخبر عن حكم الله , وحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - . وهذا - بلا شك - يؤكد أهمية الثقة بفتاوى العلماء الربانيين الراسخين في العلم , والاطمئنان إليها , ونشرها في المجتمع . [email protected]