أصدر عدد من العلماء والمشايخ المتخصصين في الشريعة الإسلامية وأحكامها بيانًا يستنكرون فيه ظاهرة الفتاوى الشاذة التي ظهرت أخيرًا على الساحة، موضحين أن باعثهم على هذا البيان ما تفشى في الآونة الأخيرة في بلاد الحرمَيْن من تصدي بعض الطارئين على مقام العلم والفتوى لبعض الفتاوى الشاذة والآراء المرجوحة كعدم وجوب صلاة الجماعة وإباحة الاختلاط بين الرجال والنساء، وتسويغ قيادة المرأة للسيارة، ونحوها من الفتاوى المخالفة للنصوص الشرعية، وما فهمه أهل العلم قديمًا وحديثًا. واستنكر البيان الحفاوة الواسعة من قِبل بعض وسائل الإعلام المشبوهة التي روَّجت لهذه الآراء وأصحابها، وغيَّبت الرأي المؤصل للراسخين من العلماء المشهود لهم بالعلم والصلاح. وناشد الموقِّعون على البيان مَنْ بسط الله يده ولسانه من أهل العلم والسلطان التصدي لأدعياء العلم من غير المتأهلين للفتوى، ومن يروج لباطلهم من وسائل الإعلام، والأخذ على أيديهم ومعاقبتهم بعد عرضهم على القضاء الشرعي، وبيان زيغهم وضلالهم؛ لكيلا يفسدوا على الناس أمر دنياهم وأخراهم. كما حذر البيان من ترسيخ المآثم والمعاصي وتطبيعها في مجتمعنا الإسلامي، كالاختلاط والخلوة، سواء كان ذلك بصورة عملية في مجال العمل أو الدراسة، أو كان بصورة علمية بتسويغها عن طريق الفتاوى الشاذة. وتورد "سبق" فيما يأتي نص البيان:
بسم الله الرحمن الرحيم بيان بشأن ظاهرة الفتاوى الشاذة وخطورتها على المجتمع والواجب تجاهها الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. وبعد: فإن مما هو معلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الذب عن حمى الشرع المطهر والذود عن حياضه من أعظم الواجبات وأجلِّ فروض الكفايات؛ إذ لو تُرك مَنْ شاء أن يقول ما شاء، من غير نكير يكشف زيف باطله ويبدد سراب جهله وزيغه؛ لخبا نور النبوة، واضمحلت الديانة، وفشت الجهالة، وانطمست معالم الحق... وهذا ما لن يكون أبدًا - بفضل الله ورحمته -؛ فالدين محفوظ؛ قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجز: 9]، وحَمَلة الحق وحراس الشريعة متوافرون إلى أن يرث اللهُ الأرضَ ومَنْ عليها، يصدعون بالحق، ويبددون سراب الجهل والباطل، قال صلى الله عليه وسلم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي قَائِمَةً بِأَمْرِ اللَّهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُونَ عَلَى النَّاسِ» أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ وَالشَّيْخَانِ. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "وهذا الدين لا يُنسخ أبدا، لكن يكون فيه مَنْ يُدخل من التحريف والتبديل والكذب والكتمان ما يلبس به الحق بالباطل، ولا بد أن يقيم الله فيه من تقوم به الحجة خلفا عن الرسل؛ فينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين؛ فيحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره المشركون". [مجموع الفتاوى 11/435]. فليفرح المؤمنون، ولتطمئن قلوبهم، وليستفرغوا وسعهم في بيان الحق والنصح للخلق والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والصبر على الأذى في ذلك ف{إِنَّ اللهَ مَعَ الذِينَ اتَّقَوا وَالذِينَ هُمْ مُحْسِنُون}[النحل: 128]. وإنَّ الباعث على هذا البيان والتوضيح ما تفشَّى في الآونة الأخيرة في بلاد الحرمَيْن (المملكة العربية السعودية) - حرسها الله - من تصدي بعض الطارئين على مقام العلم والفتوى لبعض الفتاوى الشاذة والآراء المرجوحة: كعدم وجوب صلاة الجماعة، وإباحة الاختلاط بين الرجال والنساء، وتسويغ قيادة المرأة للسيارة، ونحوها من الفتاوى المخالفة للنصوص الشرعية وقواعد الدين الكلية ومقاصده العامة، التي جِماعها جلب المصالح وتكميلها ودرء المفاسد وتقليلها في العاجل والآجل، ويحدث ذلك كله في ظل حفاوة واسعة من قِبل بعض وسائل الإعلام المشبوهة التي روَّجت لهذه الآراء وأصحابها، وغيَّبت الرأي المؤصل للراسخين من العلماء المشهود لهم بالعلم والصلاح؛ لتكون - شعرت أو لم تشعر- مِعْول هَدْم لهذا الكيان الشامخ الذي قام على تحكيم الشرع المطهَّر، وأداة بيد المتربصين بهذه الدولة - حكومة وشعبا - الذين ما فتئوا يوجهون لها سهام الثلب، ويمارسون عليها ما لا يخفى من الضغوط لتتخلى عن دينها وتنسلخ من هويتها.. وما تقرير اللجنة الأمريكية للحريات الدينية الأخير - الذي وصف هذه البلاد بأنها "دولة ذات مبعث قلق خاص! بسبب انتهاكها للحريات حسب زعمهم - عنا ببعيد. ومع أن الله تعالى قد قيَّض - بمنه وكرمه - جمهرة من أهل العلم والفضل؛ فكشفوا زيف هذه الآراء الشاذة وبيَّنوا عوارها بما لا مزيد عليه، إلا أن مما يُثير الاستغراب والألم غض الطرف من قِبل وزارة الثقافة والإعلام عما تقوم به الكثير من وسائل الإعلام من الترويج لهذه الآراء الشاذة وتلميع أصحابها، وتجاهل ردود أهل العلم المعتبرين عليها. ولا يخفى على ذي لُبّ أن منصب الخلافة في الإسلام، وما يتفرع منه من ولايات وسلطات، مقصوده الأعظم: (خلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به) ]الأحكام السلطانية للماوردي، ص 3 [، كما أن من أعظم واجبات الخليفة في الإسلام "..حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، فإن نَجَمَ مبتدعٌ أو زاغَ ذو شبهة عنه أَوضَحَ لَهُ الحجةَ وبيَّنَ له الصواب، وأخذه بما يلزم من الحقوق والحدود؛ ليكون الدين محروسا من خلل، والأمة ممنوعة من زلل" [الأحكام السلطانية للماوردي ص 22] . وقد جاءت نصوص النظام الأساسي للحكم مؤكدة لما سبق؛ حيث تضمنت ديباجة هذا النظام تحت عنوان: (مبادئ الدولة) ما نصه: "تمثل الدعوة الإصلاحية التي قامت عليها الدولة السعودية الركيزة التي اعتمد عليها الحكم فيها، وتقوم تلك الدعوة على أساس إقامة شرائع الإسلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية، وإصلاح العقيدة وتنقيتها من البدع، وهي بذلك تستمد مبادئها من المبادئ الإسلامية الصحيحة التي كانت سائدة في صدر الإسلام". كما جاء في المادة الثالثة والعشرين ما نصه: "تحمي الدولة عقيدة الإسلام.. وتطبق شريعته.. وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.. وتقوم بواجب الدعوة إلى الله". وجاء في المادة الثانية عشرة: "تعزيز الوحدة الوطنية واجب، وتمنع الدولةُ كلَّ ما يؤدي إلى الفرقة والفتنة والانقسام". ولا ريب أن ترك أصحاب هذه الآراء الشاذة يلبسون الحق بالباطل هو من أعظم الفتن وأخطر عوامل الفرقة وخلخلة بنية المجتمع، وقد تضافرت نصوص العلماء في التحذير من خطر الفتاوى الشاذة، قال الإمام الكاساني: "وقد رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّهُ كَانَ لا يُجْرِي الْحَجْرَ إلا عَلَى ثَلاثَةٍ: الْمُفْتِي الْمَاجِنِ، وَالطَّبِيبِ الْجَاهِلِ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ؛ لأنَّ الْمَنْعَ عَنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ؛ لِأَنَّ الْمُفْتِيَ الْمَاجِنَ يُفْسِدُ أَدْيَانَ الْمُسْلِمِينَ، وَالطَّبِيبَ الْجَاهِلَ يُفْسِدُ أَبْدَانَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسَ يُفْسِدُ أَمْوَالَ النَّاسِ فِي الْمَفَازَةِ؛ فَكَانَ مَنْعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَر" [بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع، كتاب الحجر والحبس: 7/169]. وقال الخطيب البغداديّ: "ينبغي للإمام أن يتصفّح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقرّه، ومن لا يصلح منعه ونهاه وتوعده بالعقوبة إنْ عاد". وقال: "وطريق الإمام إلى معرفة من يصلح للفتيا أن يسأل عنه علماء وقته، ويعتمد إخبار الموثوق بهم"[المجموع شرح المهذب، المقدمة، باب آداب الفتوى والمفتي والمستفتي: 1/73]. وقال ابن القيّم: "مَنْ أَفْتَى النَّاسَ وَلَيْسَ بِأَهْلٍ لِلْفَتْوَى فَهُوَ آثِمٌ عَاصٍ، وَمَنْ أَقَرَّهُ ومَنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ آثِمٌ أَيْضًا". قَالَ أَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ - رَحِمَهُ اللَّه -: "وَيَلْزَمُ وَلِيََّ الْأَمْرِ مَنْعُهُمْ كَمَا فَعَلَ بَنُو أُمَيَّةَ، وَهَؤُلَاءِ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَدُلُّ الرَّكْبَ وَلَيْسَ لَهُ عِلْمٌ بِالطَّرِيقِ، وَبِمَنْزِلَةِ الْأَعْمَى الَّذِي يُرْشِدُ النَّاسَ إلَى الْقِبْلَةِ، وَبِمَنْزِلَةِ مَنْ لَا مَعْرِفَةَ لَهُ بِالطِّبِّ وَهُوَ يَطِبُّ النَّاسَ، بَلْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا مِنْ هَؤُلَاءِ كُلِّهِمْ، وَإِذَا تَعَيَّنَ عَلَى وَلِيِّ الْأَمْرِ مَنْعَ مَنْ لَمْ يُحْسِنْ التَّطَبُّبَ مِنْ مُدَاوَاةِ الْمَرْضَى فَكَيْفَ بِمَنْ لَمْ يَعْرِفْ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ، وَلَمْ يَتَفَقَّهْ فِي الدِّينِ؟. وَكَانَ شَيْخُنَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَدِيدَ الْإِنْكَارِ عَلَى هَؤُلَاءِ، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: قَالَ لِي بَعْضُ هَؤُلَاءِ: أَجَعَلْتَ مُحْتَسِبًا عَلَى الْفَتْوَى؟ فَقُلْتُ لَهُ: يَكُونُ عَلَى الْخَبَّازِينَ وَالطَّبَّاخِينَ مُحْتَسِبٌ وَلَا يَكُونُ عَلَى الْفَتْوَى مُحْتَسِبٌ؟" [إعلام الموقعين عن رب العالمين: 4/237]. وانطلاقا من حرصنا على بيان الحق والنصح للخلق؛ فإننا نود توضيح الآتي:- 1- أن الواجب على عموم المسلمين الالتفاف حول العلماء الراسخين المشهود لهم بالعلم والصلاح، والصدور عن فتاواهم، وعدم الاغترار بهذه الأطروحات الشاذة والآراء المنحرفة. 2- أننا نناشد مَنْ بسط الله يده ولسانه مِنْ أهل العلم والسلطان التصدي لأدعياء العلم من غير المتأهلين للفتوى، ومَنْ يروج لباطلهم من وسائل الإعلام، والأخذ على أيديهم ومعاقبتهم، بعد عرضهم على القضاء الشرعي، وبيان زيغهم وضلالهم؛ لكيلا يفسدوا على الناس أمر دنياهم وأخراهم. 3- يجب الحذر من ترسيخ المآثم والمعاصي وتطبيعها في مجتمعنا الإسلامي، كالاختلاط والخلوة، سواء كان ذلك بصورة عملية في مجال العمل أو الدراسة، أو كان بصورة علمية بتسويغها عن طريق الفتاوى الشاذة، كما يجب على العلماء وطلاب العلم توضيح الحق للناس وبيانه لهم حتى لا يُخدعوا بهذه الدعاوى الفاسدة، وبيان خطر القول على الله بغير علم، ولاسيما في ظل انزلاق بعض المنتسبين إلى بعض الجهات الشرعية في الباطل، كالقول بإباحة الاختلاط بين الرجال والنساء في العمل والدراسة، وأن ذلك ليس معروفا في كلام العلماء السابقين، مع أن هذا مخالف للإجماع واتفاق المذاهب المعتبرة. 4- نوصي عموم المسلمين بتقوى الله تعالى في السر والعلن، والحذر من مسالك أهل الزيغ والأهواء، وعدم الانخداع بدعاوى الجاهلين، وشبهات المتعالمين. نسأل الله تعالى أن يهدي ضال المسلمين، وأن يرزقنا الثبات على دينه حتى الممات. وصلى الله وسلَّم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. الموقعون: . د/ سليمان بن وائل التويجري، عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى سابقًا. . الشيخ/ خضران بن مساعد الزهراني، قاضي محكمة الاستئناف بمكةالمكرمة. . د/ عبدالله بن عمر الدميجي، عميد كلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى سابقًا. . د/ محمد بن سعيد القحطاني، أستاذ العقيدة بجامعة أم القرى سابقًا. . د/ محمد بن صامل السلمي، عميد كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بجامعة أم القرى سابقًا. . د/ ستر بن ثواب الجعيد، رئيس قسم القضاء بكلية الشريعة سابقًا. . د/ عبدالله الحنايا، عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة أم القرى. . أ.د/ غالب بن محمد الحامضي، رئيس قسم الكتاب والسنة بجامعة أم القرى. . د/ خالد بن عبدالله الشمراني، الأستاذ المشارك بكلية الشريعة بجامعة أم القرى. . د/ عبدالرحمن بن جميل قصاص، الأستاذ المشارك بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى. . د/ صالح بن درباش الزهراني، عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى. . د/ إبراهيم بن علي الحذيفي، عضو هيئة التدريس بكلية الشريعة بجامعة أم القرى. . د/ عبدالله بن علي المزم، عضو هيئة التدريس بكلية الدعوة وأصول الدين بجامعة أم القرى. . الشيخ/ بدر بن إبراهيم الراجحي، القاضي بالمحكمة العامة بمكةالمكرمة.