في نظري هناك فرق بين الفقيه والواعظ.. فالفقيه عالم استوفى شروط الإفتاء ويملك من العلم والخبرة واتفاق الأمة ما يؤهله للاجتهاد والاستنباط وصياغة الأحكام.. أما الواعظ فرجل وهبه الله القدرة على إيصال الرسالة بأسلوب بليغ ومحبوب دون الحاجة لأن يكون فقيها قادرا على الإفتاء أو مستوفيا لشروطه.. والعلاقة بين الرجلين تكاملية ومتبادلة كون الواعظ ينشر بما يملك من فصاحة وكاريزما وقدرة على التأثير آراء وأبحاث وفتاوى الفقيه.. ومثال ذلك مايحدث في خطب الجمعة التي يتصدى لها في الغالب وعاظ أصغر سنا وأقل علما لم يستوفوا شروط الإفتاء أو يصلوا لمرحلة الاجتهاد ولكنهم يملكون من الإخلاص والأمانة ما يمنعهم من تقديم آرائهم الخاصة على آراء فقهاء وعلماء اجتمعت عليهم الأمة.. غير أن هذه العلاقة تختل حين يتلبس الوعاظ ونجوم الفضائيات أدوار الفقهاء فيطلقون فتاوى متسرعة أو شاذة أو مجتزأة فيحرجون الناس ويعطلون المصالح ويفرقون الأمة ويحمّلون الدين مالا يحتمل.. والمؤسف أكثر أن هذه الفئة بالذات هي الأحرص على الظهور والانتشار واستغلال كافة الوسائل الاعلامية المتاحة (من كاسيت وكتيبات ورسائل مطبوعة إلى قنوات ومنتديات ومواقع إلكترونية) بطريقة لا يفكر فيها علماء الأمة فضلا عن محاكاتها ومنافستها.. والأسوأ من هذا أن مامن هيئة أو نظام أو حتى ميثاق شرف يجمعهم للتداول والتوافق على كل مسألة بعينها فتخرج بالتالي عشرات الفتاوى الفردية والمتضاربة ويتحول الإفتاء إلى سوق ومزايدة يختفي فيها صوت العلماء... لهذا السبب سعدت شخصيا بإعلان خادم الحرمين قصر الفتوى على أعضاء هيئة كبار العلماء لضبط مسائل الإفتاء، والتأكيد على وجود مرجع يعود إليه الناس في هذا الجانب. وأمر كهذا يفترض أن يحدث بداهة كون التوافق الاجتماعي يتطلب وجود "مرجعية دينية" موحدة يعود إليها الحاكم وعامة الناس في أمور الدين والدنيا .. غير أن الانفتاح الإعلامي والفضائي الذي انفجر في العشرين سنة الماضية أتاح للبعض فرصة الظهور والتجرؤ على الإفتاء لمجرد الاستعراض والانتشار وتسويق الذات.. وهكذا شهدنا زخما محيرا وغير مسبوق (حتى أصبح لكل مسألة مائة رأي وفتوى) واضطرابا في آليات الإستنباط وأولويات الإفتاء (حتى تقدمت المسائل الخلافية البسيطة على الأوليات الشرعية العظيمة).. وحين نتأمل واقعنا اليوم نجد أن وعاظ الإعلام والفضائيات هم من يعيدون فتح الملفات القديمة التي انتهى منها علماء الأمة (كالبيوع والمعاملات البنكية) وإحراج الناس بحالات استثنائية وخاصة (كرضاعة الكبير وزواج عائشة) وخلط الأوليات ورفع الصوت في الأمور الخلافية (كالغناء والنقاب وأحكام التصوير) أو إضفاء صفة التحريم على أمور مباحة أو مسكوت عنها (كتعليم المرأة وضرورات الاختلاط).. والعجيب أكثر أن يترك هؤلاء بلا حسيب أو رقيب في حين يُمنع من معالجة الأبدان من لا يملك تخصصا طبيا، ومن مزاولة أعمال الكهرباء والميكانيك من لايملك ترخيصا فنيا في حين أن الأوْلى بالضبط والتقنين هو مجال عظيم كالافتاء والاجتهاد .. وفي الحقيقة حين نتأمل شروط الإفتاء (في كتب الفقه القديمة) ندرك أن هذا الأمر قد تم تقنينه منذ زمن بعيد ولو تم تطبيقه اليوم لما بقي في ساحة الإفتاء غير علماء يعدون على أطراف الأصابع ... من هذا يتضح أن قرار ولي الأمر بقصر مسائل الافتاء على هيئة كبار العلماء أو من يجد فيهم سماحة المفتي الأهلية لذلك (كما جاء في البيان) أمر فيه تذكير بشروط الافتاء وحفظ لدين الله وتوحيد لكلمة الأمة ورعاية لمصالح الناس.....الناس الذين لا يعنيهم اختلاف المدارس الفقهية بقدر وجود فتوى موحدة رسمية.. وبطبيعة الحال سيستمر البعض في الإفتاء ومزاحمة الفقهاء وعلماء الأمة خصوصا في المواقع الإلكترونية والقنوات الفضائية ولكن بالنسبة لعامة الناس يكون الأمر قد حسم بالفعل حيث تصبح قرارات "الهيئة" هي المرجع والأساس وما يتبقى مجرد آراء شخصية لا تعني سوى أصحابها...