أبدأ رسالتي بأني أشهد الله على حبك، ورغبتك في الخير لأمتك. وأنا أدرك أن ما طرحته من مسألة المعازف مسألة ناقشها الفقهاء قديماً، وهي من مسائل الخلاف المعتبر، وأن رأي الجمهور المنع، ورأي غيرهم الإذن بضوابط وعوارض. ولو أن الشيخ نقل الرأي عن الأئمة لما كان في الأمر عجباً وحراكاً، ولكن إمام الحرم يفتي بعموم السماع مطلقاً، وهذا ما لم يقل به المبيحون! وأقول: بعيداً عن هذا الطرح الفقهي، أنتقل إلى الطرح التربوي، الذي هو سمة أهل القرآن، وما ثمة في رسالتي سوى موقفين يكملان الرأي، ويعيدان النظر في المسألة من جهة الواقع وأثره على الحكم. الموقف الأول: ورد في ترجمة أحد السلف من الزهاد أنه قُدّم إلى المحراب ليصلي بالناس، فقال: استووا رحمكم الله! ثم تراجع إلى الصف وأبى. فقال: إني استحييتُ من ربي أن آمركم بالاستواء وأكونَ مقيماً على عوج. وتأخره وإن كان مرجوحاً، وفيه مسحة تكلّف يميزها الفقيه، لكن المربي يجد في القصة موعظة. فالداعية إمام لمن حوله، يقول لهم: استووا على أخلاق وأدب وحكم شرعي وإصلاح، فأنَّى ينبغي له إفتاء نفسه بعِوَج يحرف استقامتهم؟ بل يشدد على نفسه ويأبى أن يكون أول مخالف! الموقف الثاني: خلاصة تجربة العلامة أبو عبدالرحمن بن عقيل الظاهري، الذي كان يرى بحل المعازف من الرجال والنساء، وما وصل إليه من عشق الغناء والطرب، حتى قال: «لا أعلم أحداً من أبناء هذه المملكة هوَّم مع الغناء وتناغم معه وطرب له مثلي!». ولكنه عقَّب على هذا العشق بقوله: «ولكن ما نلته من حسرة مما لا يحصى كثرة من ضيق الصدر وفقد الملازمة للجليس الصالح، والتلاوة بأناة وتفهم ومراجعة، وانصراف للعلم بالنية الخالصة، وأداء الصلاة بخشوع، والحرص على النوافل دائماً في لحظات مزاجية، وحب وهمي، وإيشاك على ما فوق اللمم..!». وبعد اليقظة من الغفلة والكلام بقلب حاضر يقول: «وإنني والله اليوم -قسماً برَّاً لا أكذب عليكم- أكاد أتمزق فرحاً وطرباً كلما سمعت إذاعة القرآن، أو أي ترتيل للقرآن جميل». فهذا هو واقعنا أيها الشيخ الحبيب، فالرفق الرفق، والوسط الوسط، وصدق الشاعر الكوري (صنج) وهو يقول: (السبب الذي يجعلني أبكي.. في حزن حيوان جريح.. هنا فوق التل.. ليس فقط أن النهر يسري إلى البحر..). وقد أصاب، فثمَّة ما يُبكى عليه، وتكبر به المحنة، من نزيف ضياع، وفقدان ثقة، ووساوس، ومخادعات وأوهام! ولكننا نُبرِّؤك منها إن شاء الله.