تغريبيون، وليبراليون، وحداثيون، وعلمانيون. وهلمّ جرا، من تصنيفات يبتدعها دعاة تصنيف المجتمع إلى فئات متصارعة، وساحة استقطابات فجّة ومتضادة، لإشعال فتيل الصراع بينها، ومن ثم التغني باستحقاقات الحوار ورفع شعاره، لأنه يقرّب ويوائم؛ لنكون حِواريين.. وحضاريين.. وليكون - وهذا الأهم الرئيس - عرَّاب الحوار بطلاً لساحة هذا النزال، وإماماً له.. بكل انتهازية ودوران في شرك الأوهام التي يعتقدها. ولانكاد نتبين نماذج لأولئك التغريبيين ولا الليبراليين....إلخ. ولا وجوداً حقيقياً لهم. حتى وإن استدعوا بصراخ إعلاني وإعلامي يبشِّر بوجودهم. ومن ثم يختلق لهم فريقاً مقابلاً (الشرعيين)، دونما تحقيق في فك هذا المصطلح ولا إدراك لمقتضيات تعريفه، أو مناسبته ليكون معادلاً للفئة الأولى، جهلاً باللغة وجهلاً بالمفاهيم وأبعادها. فهل هم شرعيون من الشرعية أم من الشريعة؟، وإليهما كلنا منتمون، ولكن الولع بالجدل، يفوِّت تأنياً في التماس القيِّم والمفيد والإيجابي في ذلك الإطار، ليدور المحاور وأنصاره ومن يستدرجهم من حيث يعلمون ولا يعلمون، حول قضايا نظرية في أدنى اهتمام الناس وقضايا الوطن الملحة. وهو يشرع مسارات البناء والإصلاح. ولكي يضمن للاتجاه الذي ينحاز إليه وينتصر لأقطابه الهيمنة والصوت العالي، فلا بد من وجود مضاد له بالاتجاه، ولا بد له من حلبة صراع، وحيث لا يوجد المضاد، فيتم اختلاق أفراده، ويتم افتعال قضايا صراعه، دونما وعي بالفرق بين الفُرقة والاختلاف، ولانسبة المسافة بينهما! فالاختلاف موقف يتطلبه التعايش وتفترضه طبيعة الحياة. والفرقة مذمة تفت في مقومات الوطنية، وتبدد مقدرات وطاقات المواطنة. والمحاور محايد نزيه، يعيش سكرة ارتفاع الجماهيرية والذيوع، واستشراء النزاع وتوسع دائرة الخصومة، معوِّلاً على الطبيعة الغريزية في الجمهور النزَّاعة إلى متعة الفرجة. فإلى أين يسير بنا مثل هؤلاء..خلف المايكرفونات والشاشات بلا مسئولية ولا وازع من وعي ولا إدراك للأولويات. شكونا بؤس الملهيات، وتذويب القضايا الرئيسية ومفاصل الأهم، فصرنا إلى صدمة حوارات تنفخ أنسامها الكريهة في رماد الفرقة والتصنيف. اللحمة الوطنية وحراك الفكر وحيوية الجدل، لا تكون بتغييب الملح والحتمي من قضايا الناس والوطن، وملفات الفساد، وتدني جودة الخدمات، ومشاريع إصلاح التعليم، وقيم العمل والإنتاج والبناء، ومسؤوليات الأسرة والمجتمع، والشراكة في التنمية، إلى التشبث بطائر التصريحات الرنانة، والبيانات المستفز ة، وقضايا، الزمن وحده كفيل بإنضاجها وإحقاق الموضوعي والحقيقي منها، لنعيد اجترار أوصاف ومصطلحات وشعارات يروق بريقها لأذهان تسكن في ظلمة التصور وظلمة التفكير والتقدير، وتستدرج جاذبيتها عقول صغيرة ونفوس أصغر. وبقدر هذا الهمّ، فإن ثمة ما يبعث على الأمل، فالمصلحون العقلاء كثر، والصادقون من العلماء والدعاة والمثقفون يتزايدون، وما يدفع بجهودهم للأمام صوب الاكتمال نوايا صادقة وجهود نزيهة، وتشجيع فاعل ومنافذ تعبير تحتفي بهم وتنصت إليهم وتحاورهم وتراجعهم، وتوسِّع من دائرة وصلهم بالناس والجماهير، لا أن ننتكس صوب تطلعات هشَّة، ومشاهد الشقاق والتصنيف، وشرخ المجتمع إلى فسطاطين.