العبارة أعلاه، كانت عنوانا لندوة أقامها المنتدى الإستراتيجي العربي التابع لمؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم في دبي الأسبوع الماضي، وتشرفت بتلبية الدعوة الكريمة للمشاركة فيها. وقد قدرت لزميلنا د.سليمان الهتلان اختياره هذا العنوان، وهو الذي أدار الندوة بحياد في مسرح الجامعة الأمريكية في دبي، ربما لأن الليبرالية العربية ما زالت تلوب في مكانها رغم مرور قرنين على محاولة استنباتها في بيئتنا العربية دون جدوى (يرى كثيرون أنها دخلت مع حملة نابليون لمصر وتلك البعثات العلمية التي أرسلها محمد علي للغرب)، لكن هيهات أن تستنبت في أرضنا، فضلا عن أن تشتد وتنهض على ساقها كأيديولوجيا بديلة عن الإسلام. وقد شرفت بالحوار والنقاش مع زملاء وأساتذة في الندوة؛ وهم المفكر السوري طيب تيزيني، والدكتورة ابتهال الخطيب، الأكاديمية بجامعة الكويت، والزميل الصديق يحيى الأمير، وكان الحوار ثرياً وراقياً، وبالتأكيد كنت مختلفا معهم إلى درجة كبيرة، ومعارضا لمعظم الأطروحات التي قدموها. تناول المحور الأول تعريف الليبرالية، والحقيقة أن المصطلح لا يبدو ثابت الدلالة عند أصحابه، فضلا عن حقيقة أنه ما زال يتطور وينتقل من مرحلة إلى أخرى، بل إن الجغرافيا غالبا ما تحضر في السياق، إذ إن مفهوم الليبرالية يختلف من بقعة لأخرى، وكذلك حال استخداماتها، وقد أشارت إلى ذلك موسوعة (لالاند) الفلسفية وكذلك الموسوعة العربية العالمية، غير أن جوهرا واحدا يحضر في كل التعريفات، ويتفق عليه جميع الليبراليين عبر الأزمنة والأمكنة، هو ذلك الذي أشار إليه عبدالله العروي في كتابه (مفهوم الحرية)، حيث قال" الليبرالية تعتبر الحرية المبدأ والمنتهى، الباعث والهدف، الأصل والنتيجة في حياة الإنسان، وهي المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق عليه". ورغم أن كثيرا من الليبراليين العرب، خصوصا السعوديين منهم، يعلنون دوما أن الليبرالية ليست أيديولوجيا حاكمة أو بديلة عن الإسلام كما يزعم خصومها من التيار الديني أو القبلي، إنما هي مفاهيم وقيم عامة لا تتناقض مع الأديان، بل تحتويها في منظومتها وتحترمها، وقد طرح هذا في الندوة، غير أن بقراءتنا لنصوص رموزها وآبائها المؤسسين، نجد عكس هذا الزعم لأن أساس الليبرالية هو الحريّة، وهي في الليبرالية ليست مجرد حرية، بل حريّة لها فلسفتها وضوابطها وتقييدها بالدين إخراج لها عن مضمونها وفلسفتها. فهذا جون ستيوارت ملْ، وهو من أبرز المفكرين الغربيين الذين نظّروا للفلسفة الليبرالية من خلال كتابه (في الحرية) الذي أصبح المصدر الأساسي لفكر الليبراليين العرب من أمثال أحمد لطفي السيد، وطه حسين ، يصرّح بنقد الدين في اعتراضه على تحريم تجارة الخمر، فيقول:"إن التحريم يمسّ حرية الفرد لأنه يفترض أن الفرد لا يعرف مصلحته". بل حتى في ذات الندوة، صرّح طيب تيزيني بضرورة وضع كل نصٍّ مقدّس، مهما كانت قداسته، تحت مجهر القراءة النقدية المنهجية. وقد أوضحت له، بعد شكره على هذا الخطاب الصريح، بأن هذا لبّ الخلاف مع الليبراليين، فنحن لا نحتكم إلا للإسلام، ولا نرضى العبث بمقدسات توارثناها عبر قرون، فليت شعري أي مسلم يرضى أن يخضع القرآن الكريم لمجهر القراءة البشرية؟! مهما حاول الليبراليون الالتفاف على هذه الجزئية المفصلية، التي هي لبّ الخلاف وأصله، فلن يستطيعوا، وستظل الممانعات لها قائمة، بل عندما أعادت الدكتورة ابتهال الخطيب في ذات الندوة، مقولة للدكتور خالد الدخيل ذكرها في برنامج (البيان التالي) بقناة (دليل) بأن المستقبل لليبرالية في منطقتنا رددت –بابتسامة- بأن الإسلام ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، ولن تقبل شعوبنا بغيره نظاما يحكم حياتها، وقد استحضرت مثالا في صور راجت في شبكة الإنترنت، لخريجي جامعة القاهرة، المعقل الحصين لليبرالية العربية، على مدى سنوات الثلاثينيات، وكيف بدأت بصور لطالبات لا توجد بينهن محجبة واحدة ليصل الأمر في سنواتنا الأخيرة إلى صورة لا توجد بين الطالبات فيها سافرة واحدة، بل رأينا ثلة من المنقبات. ربما ستأخذ موجة الليبرالية المتصاعدة فورتها التاريخية، بفعل هذا الضخِّ الغربي الممتطي الإعلام، والمنتعل البسطار الأمريكي، وربما ستسود لحقبة زمانية يسيرة، غير أنها لن تلبث أن تضمحل وتصطف في ركن مغبّر من التاريخ إلى جانب الشيوعية والقومية والبعثية وكل تلك التيارات الفكرية التي سادت ببعض الوقت، رغم تناقضها مع عقيدة الأمة، فيما تلاشت غير مأسوف عليها، بتغير الظروف الموضوعية التي أنتجتها، وسيبقى الإسلام بألقه وصفائه وقرآنه نظام حياة نحتكم لتعاليمه، ونأتمر بأمره، كشريعة خالدة أبد الدهر ليقين لديّ بأن السياقات التاريخية التي نشأت وترعرعت فيها الليبرالية وغيرها من المفاهيم والنظريات الغربية لا تتوافر في بيئتنا العربية؛ لأن الإسلام لم يكن يوما ضد العلماء، بل اعتبر ما يفعلون جهادا يؤجرون عليه، أما القيم التي تتباهى بها الليبرالية مثل الحرية الفردية وحقوق الإنسان، فقد سبق إليها الإسلام قبل خمسة عشر قرنا. إذا تتبعنا جهود من ينسبون أنفسهم إلى الليبرالية في البلاد العربية الأخرى على مدى تاريخهم، فلن نعثر سوى على تحالفات مع الأنظمة ضد خصومهم الإسلاميين (في تناقض سافر مع قيم الحرية والديموقراطية واحترام إرادة الشعوب)، إضافة إلى دعوات محمومة لنشر القيم الاجتماعية المتناقضة مع الإسلام، ومع إرادة الناس أيضا، والأهم ترويجهم لبضاعة فكرية بائسة تشكك في النصوص الإسلامية المقدسة وعلى رأسها القرآن الكريم، وتعتبر الإسلام منتجا بشريا لا أكثر ولا أقل. إذا كانوا ليبراليين حقا فليعلنوا الاحتكام لإرادة المجتمعات، أما الوصاية عليها واستخدام سطوة السلطة في مواجهتها، في استعادة لنهج القوميين واليساريين في فرض بضاعتهم الأيديولوجية على الناس بالقوة، فليست نهجا مقبولا بحال، وستؤدي إلى مزيد من سقوطهم في وعي تلك المجتمعات. نحن متأكدون أنهم لن يفعلوا، لأنهم ببساطة يعرفون أن الإسلام هو خيار المجتمعات والشعوب في طول العالم العربي والإسلامي وعرضه، وتلك فضيحتهم على أية حال، إذ ما من شيء يسقط المثقف في وعي الناس مثل تناقضه مع القيم التي يدعو إليها، وهو ما رصدناه في سلوكيات عتاة الليبرالية العربية. إن أراد الليبراليون الحقيقيون في بلادنا -لا أولئك الانتهازيين الممتطين كل موجة صاعدة والذين شوهوا فعلا مبادئها بسلوكهم الذي يناقض أول مبادئهم- اختصار الجهد والوقت، وكانوا مخلصين للمبادئ التي يؤمنون؛ فعليهم الاستفادة من قيم الليبرالية وضبطها من خلال الإسلام وأحكامه، مع صدق الانتماء والاعتبار للشريعة، وأن يجعلوا الإسلام هو الحاكم والمرجعية، وإلا فستظل جهودهم هباء، وسيحرثون في بحر الوهم.