لو وكل الأمر لبعض الجماهير لابتغت آراء العلماء وفتاواهم كالبرنامج الغنائي الشهير «ما يطلبه المستمعون»، والجماهير لا يقلون عن بعض الحكام فتنة للعالم، وأغلب أحداث التاريخ رصدت فتنة الحاكم للعالم، لكن لا يوجد إلا النزر اليسير عن فتنة الجماهير للعالم، ولعل الواقعة الأبرز والأشهر لفتنة الحاكم للعالم ما جرى للإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه في مسألة خلق القرآن، التي لجأ علماء زمانه إلى التورية لتجنب مواجهة الحاكم وسطوته، ومع ذلك ففي ثنايا هذه الفتنة تحمل الجانب الإيجابي من الاعتبار لتأثر الجماهير لا تأثيرهم، ففي «المؤتمر الصحافي» الأشهر للإمام أحمد كانت الجماهير محتشدة تحمل في يسراها قراطيس وفي اليمنى أقلاما، تنتظر ما يصرح به الإمام عن خلق القرآن، هذه الجماهير هي التي جعلته يتمسك برأيه ويصبر بسببها على ما جرى له من تعذيب وإهانة. المشكل أن الجماهير بعد ثورة الاتصالات الفضائية والإنترنتية صارت هاجسا أكبر لعدد من العلماء والدعاة وأصحاب الأقلام في طول العالم العربي وعرضه، وقوة ضاغطة عليهم من أن يصرحوا بآرائهم وقناعاتهم، وأصبحت هذه القناعات في أحيان قليلة حبيسة الأوراق ومحصورة في همسات المجالس الخاصة، وليس ثمة إشكال كبير لو كان الرأي الذي لا يستطيع العالم أن يصرح به رأيا فقهيا عاديا ليس له ذاك التأثير الشديد على بنية المجتمع وتماسكه وأمنه مثل تحليل أو تحريم الاكتتاب في بعض الشركات، أو مثل حكم الموسيقى، لكن المشكل حين يسكت العالم أو الداعية أو قادة الفكر والرأي عن فتوى أو رأي له تداعيات خطيرة في حالة السكوت عن إشهاره، أو إشهاره بلغة مطاطة حمالة لأوجه. وحين واجهت الدول العربية مد «القاعدة» الإرهابي في العشر سنوات الماضية وكانت هجماتها حينئذ محصورة في مهاجمة المصالح الأميركية في الدول العربية، كان صوت التنديد شبه مختف أو كان باهتا ضبابيا، وكان في كثير من الأحيان حبيس الأدراج ومحصورا في المجالس الخاصة، وعلاوة على أن مثل هذه الهجمات نوع من الافتئات على الدولة ومعاهداتها واتفاقياتها، فقد تسببت أيضا في إزهاق أرواح عدد من المواطنين المسلمين المسالمين، وكان حريا ببعض الدعاة أن يكون تجريمهم آنئذ لهذه الأفعال قويا ومدويا، لأن الصوت الخافت أو المختفي يعطي الرسالة الخطأ للتمادي في هذه الأعمال الإرهابية كمًّا ونوعا، وهذا ما جرى، ففي السعودية مثلا تجاوز إرهابيو «القاعدة» استهداف المصالح الأميركية إلى المؤسسات المسؤولة عن الحفاظ على الأمن، ثم أخيرا إلى رموز الدولة كما في محاولة اغتيال الرجل الثالث في الداخلية السعودية الأمير محمد بن نايف. وهذه الأيام يتعرض السلم الطائفي في منطقة الشرق الأوسط للخطر، بسبب تصريحات وشتائم متبادلة، وأخشى أن تتكرر نفس المأساة إذا لم يصدع العلماء والدعاة وحملة القلم بالتحذير من هذا المنزلق؛ فمعظم النار من مستصغر الشرر. يجب أن يدرك العلماء والدعاة والمفكرون وحملة القلم أنهم ليسوا ملكا لأنفسهم، وأن لهم محبيهم الذين يشاركونهم في الغنم والغرم، فصوابهم لجماهيرهم وخطؤهم عليهم، فإن أخطأوا في العلن فعليهم أن يتحملوا ويصبروا على تخطئتهم في العلن، ومقولة «لا خير فيكم إن لم تقولوها ولا خير فينا إن لم نسمعها» ليست حقا للعامة على الحاكم، بل تعني أيضا كل من تصدى لأمر العامة من العلماء والدعاة والمفكرين، وتوقيت تصويب الخطأ مسألة غاية في الأهمية، إذ إن تأخيره في بعض الأحيان قد يتسبب - لا سمح الله - في نتائج كارثية.