حيث يكون هناك إقصاء وأحادية وحجب ومنع واضطهاد فكري وتنقيب عما في قلوب الناس وضمائرهم، وحين يلزم الناس إلزاماً وبالقوة برأي ما أو بمذهب ما ديني أو فكري حتى ليخاف كل ذي رأي أن يبدي رأيه، فيهمس به همساً او يبقيه حبيس صدره لئلا (يناله من الطبيب نصيب)، ينشأ ما يسمى بال «تقية». وليست التقية عيباً في حدَّ ذاتها، فهي سلوك يلجأ إليه العقلاء (يتقون) به سطوة من لا يرعى فيهم إلاً ولا ذمة، وهو سلوك شرعه الله تعالى في القرآن الكريم للمؤمنين حين يحتاجون إليه في تعاملهم مع الكافرين (لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة)، وأجازها لهم حين يكرهون على دينهم أو يضار أحد منهم (إلا من أكره وقلبه مطمئن بالايمان)، وقصة عمار بن ياسر رضي الله عنه شهيرة معروفة حين أجبروه بالتعذيب على التعريض بذات النبي صلى الله عليه وسلم فأذن له في ذلك، وقال: (إن عادوا فعد)!. هذا فيما بين المؤمنين والكافرين، فكيف يكون الحال فيما بين المسلمين والمسلمين؟ كيف يكون الحال حين يكون هناك نوع إكراه على مذهب معين أو رأي معين من لا يقول به فهو إما كافر مرتد، او فاسق مستحق للعقوبة، أو مبتدع يجب هجره وإيذاؤه وبغضه في الله تعالى؟ التقية بين المسلم والمسلم أجاز علماء الإسلام التقية فيما بين المسلم والمسلم حين يجبر أحدهما أخاه على اعتقاد مذهب يراه هو حقاً ويراه الآخر غير ذلك، وقد جرى هذا في عهد المأمون حين أجبر بسلطته الناس على القول بخلق القرآن فثبت من العلماء من ثبت، وانحرف منهم من انحرف، ولجأ بعضهم إلى التقية يحتمى بها. كذلك فعل الإمام محمد بن جرير الطبري مع الحنابلة حين خافهم على نفسه إذ هاجموه رمياً بالمحابر! لأنه عد الإمام أحمد من المحدثين لا من الفقهاء فلم يأت بأقواله في كتابه الذي ألفه في اختلاف الفقهاء فأغضبهم عليه، كما خالفهم في مسألة من مسائل العقيدة فلم يتخلص منهم إلا بعد لأي، ثم ألف كتاباً يرضيهم به علّهم يتسامحون معه، غير أن هذا لم يشفع له فأبوا- حين وافته المنية- أن يدفن في المقبرة، وحالوا دون ذلك فدفن رحمه الله في بيته! (يا للقسوة)! كذلك فعل الإمام مفكر الحنابلة ابوالوفاء بن عقيل (الحنبلي)! حين حكم عليه بنو مذهبه (الحنابلة) بالكفر، لأنهم رأوه يزور أحد علماء المعتزلة، فلم يرضوا عنه حتى ذهب إلى الديوان ليجدد إسلامه، ويعلن توبته! بعد سنين من الإيذاء والتعدي. ولما صدرت وثيقة القادر بالله العباسي التي قرر فيها عقيدة أهل السنة، اشتدت الوطأة على المعتزلة، فعزل منهم من عزل، وقتل من قتل، وشرد من شرد، كما أحرقت كتبهم ومزقت، فلم يعد للمعتزلة كتب نعرف منها مذهبهم إلا القليل النادر، وفقدنا تراثاً عظيماً لو بقي كله، لأفاد الباحثين والدارسين في الفكر الإسلامي وتاريخه أيما فائدة. حد الإكراه وهكذا دواليك، كل من تكون له الغلبة يجبر الآخرين على اعتناق مذهبه لأنه يراه أنه الحق، وتسود حينئذ حالة من الإكراه والقسر، وقد اختلف علماء الإسلام في حد الإكراه الذي يجيز التقية، فقد نقل الإمام القرطبي في تفسيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «ليس الرجل آمناً على نفسه إذا أخفته، أو أوثقته، أو ضربته» فالخوف إذن سبب وجيه للتقيه، وهل هناك سبب للخوف أعظم من التكفير أو التضليل أو التفسيق أو التبديع، فضلاً عن الافتراء والبهتان ونشر الأكاذيب على المخالف من باب «تحذير المسلمين من شرور المبتدعة»! (ليت ميكافيللي أدرك زماننا ليعلم انه مجرد تلميذ صغير مقارنة ببعض من يدعون التدين). قال ابن مسعود: «ما كلام يدرأ عني سوطين إلا كنت متكلماً به» فكيف إذا كان الكلام يدرأ عنك الإضرار في الرزق، وحرمان العيش بسلام؟ ان سوطين أهون ألف مرة، من المحاربة في الأرزاق، وتشويه السمعة. وقال الإمام مالك: «القيد إكراه، والسجن إكراه، والوعيد المخوف إكراه» فمجرد التهديد والوعيد هو نوع من الإكراه، فكيف بالتكفير وإحلال الدماء والأموال، واستباحة الأعراض بالقدح والذم؟ الكل يمارس التقية إن مجتمعاً لا يأمن الفرد فيه على نفسه إن قال رأيه بوضوح وصراحة، مجتمع جدير ان تتجذر فيه التقية تجذراً، فعلام نلوم طائفة واحدة بأنها تمارس التقية دون أن ننظر إلى غيرها من الطوائف؟ ليس هناك أحد لا يمارس التقية بوجه من الوجوه، (التقية الفقهية) فكم من فقيه يقول الرأي يعتقد خلافه حتى لا يتعرض للضغوط والأذى إما من الجمهور أو من الأقران أو من غيرهم، و (التقية الوعظية) فكم من خطيب يقول القول يرضي به الآخرين حتى يسلم من الآلسنة الحداد والتصنيف المقيت، و(التقية العقدية)، فكم من عالم يخالف في بعض مسائل العقيدة فيظهر ما لا يبطن، و (التقية الفكرية) فكم من كاتب يكتب ما لا يقتنع به لئلا يسارع بعض الكرماء الأسخياء بتكفيره تبرعاً لوجه الله الكريم! فتنة التصنيف وما اكثر المتخصصين- اللهم لا حسد- في تصنيف الناس وتوزيع الألقاب عليهم، فإن تكلم المتكلم في شمائل رسول الله قيل: هو صوفي، فإذا تحدث عن قيمة الإرادة الإنسانية وأهميتها وأن الإنسان محدث لأفعاله قيل: معتزلي!، فإذا تكلم في قضية من القضايا الحركية الدعوية قيل: إخواني!، فإذا تكلم في حقوق الإنسان والتعددية والمجتمع المدني قيل: ليبرالي تنويري! إذا كنا نلوم قوماً لأنهم يمارسون التقية حتى أصبحت شعيرة من شعائر الدين عندهم (وللقضية أسباب دينية وتاريخية ليس هنا موضع بسطها)، فعلينا أن نلوم غيرهم من المسلمين الذين يعلنون خلاف ما يسرون، ويظهرون خلاف ما يبطنون لا لشيء إلا ليغنموا السلامة من قالة السوء ومن الإقصاء ومن التصنيف المقيت الذي تخصص فيه بعض الناس تخصصا!. إن الذين يظنون أن انتشار رأي ما دليل على صوابه، أو أن انحسار رأي ما دليل على خطئه، إن الذين يظنون هذا الظن مخطئون ولا شك، فإن آراء ابن تيمية رحمه الله التي حورب وأقصي حتى مات سجيناً بسببها، كانت آراء شاذة في زمانه، ثم بقيت بعد وفاته حبيسة الكتب قروناً طوالاً، حتى جاء زمان انتشرت فيه آراؤه هذا الانتشار الذي نراه، فهل كان شذوذها في زمانه دليلاً على بطلانها، وانتشارها في زماننا دليلاً على صحتها؟! حين يقول هذا رأيه، وهذا رأيه، وهذا رأيه بصراحة تامة وبلا خوف أو إرهاب، يصبح المجتمع كله منتدى فكرياً ضخماً، فتتحرك العقول، وتتحفز الأذهان، وتتوق الأنفس إلى البحث والتنقيب للوصول الى الحق عن قناعة وحب، وبهدوء وروية، أما إكراه الناس على فكر واحد، ورفع مطرقة التكفير والتفسيق التضليل والتبديع والتخوين على رؤوس الخلائق، فنشر لأجواء التشنج والتوتر، وقتل لروح البحث والتفكير وهدم لعلائق الإنسانية، وتقطيع لأواصر المحبة، وتفريق بين ابناء البلد الواحد، وتعطيل للطاقات والقدرات، مما يحول دون بلوغ الهدف، ولا يوصل الى شيء، بل يسهم الإسهام كله في الإضرار بالوحدة الوطنية، وتماسك المجتمع. معاشر القراء الكرام، أكذب عليكم إذا قلت لكم: إني في هذا المقال لم أمارس التقية!. [email protected]