عبدالله المغلوث * الوطن السعودية كان يجر خلفه علامة استفهام كبيرة في شوارع مدينة أوجدن الأمريكية. فهو يرتاد بعض المرافق العامة مرتديا ثوبا ومعتمرا طاقية. كان يظهر في كل مكان في تلك المدينة الصغيرة. صباحا يكون طالبا في مختبر الجامعة. عصرا ميكانيكا في إحدى ورش السيارات. وفي نهاية الأسبوع نادلا في مطعم. رغم أنه يتوافر في كل هذه الزوايا المزدحمة إلا أنه لا يملك صديقا قريبا. يضع مسافة شاسعة بينه وبين الآخرين. لا يسمح لأحد باختراقها. لم يتجاوز عدد السعوديين في أوجدن عام 2000 أصابع اليد الواحدة. الجميع يعرف الجميع حينذاك إلا هو. ظل بعيدا، متواريا. إجاباته مقتضبة وحادة يغرزها في أذنك كإبرة. فلا تكرر المحاولة مجددا. الإثارة التي يخلفها وراءه لا تعود لكونه فظا غليظ القلب بل لأنه أيضا شخص مبهر في مواهبه. فهو رسام وميكانيكي وكهربائي وسباك وطباخ. كان يسكن منزلا دون أن يدفع سنتا. فالإيجار كان يسدده عن طريق أعمال السباكة التي يمارسها بإتقان في المجمع السكني الذي يقيم فيه. كان أحد جيرانه رفيقي في إحدى المواد وكان لا يمل الحديث عن مواطننا الغامض. تارة عن مهارته في الرسم. وتارة أخرى عن صمته المريب. تجرأت في أحد مساءات أوجدن الممطرة أن أخترق عزلته وصمته وأطرق بابه لمساعدتي في إصلاح سيارتي المتهالكة. استقبلني ببرود أشد بأسا وضراوة من الثلج الذي كان يهطل علينا دون هوادة. لم يدعني أدخل شقته. وسألني أن أتحدث خارجا وأنا أرتجف بردا وخجلا. آثرت أن أكمل مهمتي وأطلب مساعدته في علاج سيارتي رغم استقباله البارد. فلم أكن أملك خيارا بديلا. شرحت له وضعي المالي ووعدته أن أقسط عليه تكلفة إصلاحها على دفعات. وقبل أن أكمل حديثي سألني أن أعطيه مفتاح سيارتي وسيتولى الأمر. وفيما أناوله المفتاح عرضت عليه أن يحصل على رقم هاتفي حتى يتصل بي عند الانتهاء من إصلاحها. بيد أنه قال وهو يغلق بابه وحوارنا "أعرف أين أجدك". بعد نحو أسبوع تقريبا، تلقيت اتصالا من إمام مسجد المدينة. أشار من خلاله إلى أن ابن جلدتي وضع سيارتي أمام المسجد وطلب منه أن يسلمني مفتاحها. سألته إذا كان أخبره أنه أصلحها أم لا. فأجاب الإمام ضاحكا "ألا تعرفه؟ كلامه بالقطارة". جئت للمسجد البعيد مسرعا منتشيا كأنني أتزحلق على جليد من الفرح. وزادت سعادتي عندما سمعت هدير محرك سيارتي. كان لا يصدر صوتا مؤذيا كالذي يهاجمني منذ شهور بل يغني وربما يرقص بحبور. ذهبت إلى البنك وسحبت كل رصيدي إلا قليلا؛ لأمنحه لمن أعاد إليّ سيارتي وابتسامتي التي افتقدتها منذ أسبوع. وجدته في الورشة يتحدث مع أحد الزبائن وبعد أن شاهدني أقف بمحاذاته التفت إليّ ووجهه يفيض عبوسا. لم أكترث بتجهمه. احتضنته بتبذير وشكرته على إصلاح سيارتي وزرعت في جيبه ما تيسر. لكنه نهرني وأعاد النقود إليّ قائلا وهو يقفل عائدا إلى زبونه "لا آخذ أجرا من إخواني". جملته الموجزة هزتني، وجعلتني أدلف نحوه رغم كل الحدود التي شيدها، والألغام التي زرعها. توطدت علاقاتنا على نحو سريع. سريع جداً. أصبحت أتردد على شقته دون سابق إنذار. وفوجئت في إحدى زيارتي له بأنه غير طبيعي، ربما كان يتعاطى مخدرا. فهو ومسكنه في حالة يرثى لها. وعندما حاولت أن أعاتبه وأستفسر عن حالته. انهار فجأة. أجابني وهو يبكي بأنه تسبب في إعاقة ابن عمه بعد أن أطلق عليه النار بعد خلاف نشب بينهما في المملكة. وقد اشترط عليه عمه، أب الضحية، مغادرة البلد إلى الأبد أو إبلاغ السلطات. فاختار الأول. في حين ادعى عمه أن ابنه أصاب نفسه عن طريق الخطأ وهو ينظف سلاحه. اللافت أنه بعد اعترافه لي بنحو عام قبض عليه في أمريكا بتهمة الاعتداء على قاصر وترويج المخدرات. التستر على المجرم، حتى لو كان ابن أخيك، ليس علاجا، بل جريمة بحد ذاتها. فالذي أطلق النار على ابن عمه، من الطبيعي أن يطلق النار على الغريب. فلندع العدالة تأحذ مجراها حتى لا نتهم بتصدير المجرمين، حتى نحقن دماء المسلمين وغير المسلمين.