هذا هو السؤال الذي يجب أن يطرح بعد مأساة جدة، فالقضية ليست مثالا واحدا طفح على سيل جدة!! وإنما هي أمثلة كثيرة بعضها غارق في سيول أخرى، وقد تخلقت له خياشيم يتنفس من خلالها، وبعضها فوق السطح ولكننا لا نراه؛ بسبب قدرة سحرته على أعيننا { سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ}؛ فلا نرى سوى ما أرادوا أن نرى!! الفساد كومة من القاذورات تتجمع عبر السنين كما تجمعت تلك السيارات الخربة في سيول جدة، وفجأة تكتشف بكل نتنها، كما تكتشف الجثث في مذابح المغدور بهم في صمت .. خلال الحروب الطاحنة!! الصحف تستطلع، والمقالات تصرخ، ومنتديات الشباب على الشبكة العالمية ومجالس الناس تلوك الأحداث اليومية لوكا شرسا، وأئمة الفساد في غيهم يعمهون، وفي أقبية رغباتهم سادرون، وكأنهم لا يسمعون! ومن أين يبدأ هذا الملف (الموجع)؟ إنه يبدأ من أزمة لا نتحدث عنها إلا نادرا!! أزمة الإيمان والأخلاق.. أين يقع الفساد الإداري؟ ولماذا يقع؟ وعلى يد من يقع؟ وكيف يقع؟ ومن وراءه؟ ولماذا يستمر؟ ومن الذي يغطيه؟ أو يداريه؟ أو يسدد فواتيره؟ وهل للصامتين خوفا وحذرا نصيب من إثمه؟ الناس يتحدثون عن شيوع الرشوة، ولا نرى أحدا يعاقب على مستوى كبير!! فهل كانوا يبالغون؟! ويتحدثون عن فرق شاسع بين مسؤول سلف ولم يصنع ما يجعل له ذكرا حسنا بعده، وكان يتحجج بقلة الإمكانات، وغش المقاولين، وطبيعة المدينة، وألف حجة يستبله بها عقولنا ويقهر بها نفوسنا .. ومسؤول خلف أصبح كل شيء من حوله يشهد لأمانته، تباركت الأموال في يده، فصارت المنجزات أكبر من الإمكانات، وتحولت المدينة كلها إلى فريق عمل بين يديه، يتعاون معه الجميع بلا استثناء، ويشهد له الجميع بلا استثناء، ويحبه الجميع بلا تطلع لرضا مزيف، أو تحقيق مصلحة شخصية ما، وقد طبق النظام على الجميع بلا استثناء، فربما عوقب مواطن بالنظام، أو عوتب موظف لتقصير، ولكن في النهاية سنجد أن الجميع سوى عشاق الفساد لا أرضاهم الجبار .. سوف يرضون عنه، ويحبونه. إن الأموال التي تغدقها الدولة على الأمانات والبلديات ومصالح المياه والصرف الصحي وجميع المصالح الأخرى كثيرة جدا، بل ضخمة للغاية، فليست المشكلة مشكلة ميزانيات كما كان يُخيِّل لنا أئمة الفساد، ولكنها مشكلة إيمان بالله يجعل مصالح الناس أمانة عظيمة سيحاسب الإنسان عليها من الله سبحانه وتعالى، قبل لجان المراقبة والتحقيق وديوان المظالم، أو أية جهة في الدولة مسؤولة عن التفتيش والملاحقة. إيمان عظيم يجعل القائد المحب لله تعالى ولرضاه لا يفكر كم يأخذ من وطنه؟ ولكن .. يفكر كم قدم لوطنه من خلاله عمله؟! إيمان يجعل المسؤولية هما عظيما يأرق به إذا هجع، ويحلم به إذا رقد، ويأكل به ويشرب إذا صحا.. إنه يتذكر قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة» رواه مسلم. وأخلاق تجعل الأمانة أيضا .. في أوليات سلمها، واختيار الأفضل والأولى والأنفع هو دينها الذي تدين الله به. لقد أوجعتنا أحداث جدة، وأحست أركان الوطن/الجسد الواحد بالوجع، تألمنا لكل شهيد وفقيد، لكل دار وعربة، لكل قطرة دمع امتزجت بالدم هناك!! فهل توجع المقصرون؟ هل أحس المهملون؟ هل دبت روح الخوف من الله في نفوسهم.. قبل أن تدب فيها روح الخوف من المحاسبة البشرية التي قد تصيب وقد تخطئ؟ ولك الدعاء أبانا .. أبا متعب على هذه الروح الأبية حد الغضب من المتسببين، الحانية حد الدمعة على المتضررين، ومواساتك لإخواننا وأخواتنا هناك ستكون عقدا من الفل والياسمين معلقا على صدر الزمن الذي عاش فيه عبدالله بن عبدالعزيز رعاه الله.