مع كل عزائنا الكبير لضحايا سيول مطر جدة، ومع كل الألم الذي نحمله من أجل أرواح الكثيرين الذين ذهبوا ضحية رشة مطر في ميناء المملكة ووجهة الاقتصاد البحري للسعودية، يبقى علينا أن نستفيد من الدرس، وألا تمر هذه الحادثة مرور الكرام. الدرس يتمثل في إعادة التصحيح والإصلاح الشامل. يتمثل في إعادة النظر في البنى التحتية لكل قطاع حكومي في جدة العروس وفي مدننا الأخرى، فعلى الأقل نحترم أرواح من ذهبوا، وليكونوا لنا ذكرى تتجدد كل عام. إن أكثر ما يمكن أن يؤلم في هذه الحادثة ألا تصبح درساً لنا في حياتنا اليومية فيما بعد. أقصد أن يتم تناسيها من قبلنا بعد أن تهدأ العاصفة ويحاسب من يحاسب. إذ لا بد أن تكون لنا حادثة محرضة على محاربة الفساد كما يجب أن يتم العمل المتواصل على ألا تعود الكارثة من جديد في جدة، أو أي منطقة أخرى، وإذا كانت جدة بهذا الشكل فهناك من المدن مدن تحتاج إلى إعادة نظر، كونها تفتقر التنمية المستدامة وليست جدة فقط، ولولا رحمة الله لكانت الكارثة في كل المناطق. لقد كانت توجيهات الملك الإنسان صريحة جداً في محاسبة المتسببين في الحادثة؛ إذ لا يمكن استثناء أحد "كائناً من كان" من المحاسبة كما هو نص الخطاب الذي نشرته كافة وسائل الإعلام مما يعني حجم الأمانة المناطة بلجنة التحقيق والتسريع في كشف الحقائق للناس. إنها مهمة سريعة وحاسمة تجعلنا نحس بقدر رؤية الملك الإنسانية لشعبه الكريم وشفافيته المطلقة التي عودنا عليها أكثر من مرة في قضايا أخرى مختلفة. لكن السؤال الملح في ذهني الآن: ماذا سوف نفعل بعد أن ننتهي من معالجة كارثة جدة؟ أقصد ما هو العمل الذي يمكن أن يكون بعد أشهر من الحادثة؟ ما هي الخطط المستقبلية التي سوف تكون لمعالجة الفساد؟. جدة سوف تشهد إعادة تصحيح كبير جداً، وسوف يحاسب المقصرون، وسوف يعاد بناء البنية التحتية للأحياء والأماكن المتضررة. لكن من المفترض أن تعمم هذه التجربة على الجميع. أعني أن تشمل عملية التصحيح كل مناطق المملكة بحيث لا تعود كارثة جدة في المدن الأخرى، فالفرصة مواتية الآن لمراقبة كافة المشاريع التي بنيت سابقاً، والتي تبنى الآن بحيث يتم التأكد من أنها على المواصفات الدقيقة، وأنه تم العمل على قضية تصريف السيول في كل الشوارع بحيث تكون هي مهمة أمانات المناطق الأخرى خلال الأشهر القليلة القادمة. إن من اللازم علينا الآن إعداد خطط مستقبلية عامة تهدف مباشرة إلى إعادة النظر في مشاريعنا التنموية والتأكد من أنها تسير بشكل صحيح وبحسب ما خطط له من خدمات، ومراقبة القطاع العام، وهذه المراقبة يجب ألا تتم من خلال موظفين من داخل المؤسسة أو الدائرة الحكومية لأنها لن تؤتي ثمارها المرجوة مطلقا كونها لن يكون لها أي صلاحيات في المراقبة العامة ولن يكون لها صلاحيات في المحاسبة، بل لابد من تفرغها التام واستقلاليتها المطلقة بحيث تكون هيئة خاصة لمراقبة التنمية ورفع تقارير للمقام السامي. في البلدان الأخرى لا يمكن أن تمر حادثة دون أن يكون هناك نوع من التصحيح بحيث لا يكون هناك أي اختراق للأنظمة مستقبلاً، فالنظام هو لحماية الإنسان من عبث العابثين، وليس من أجل أن يكون عائقاً عن التطور والتنمية. الإنسان هو الكنز الحقيقي، فبناؤه سابق على أي بناء آخر، ومن هنا يصبح علينا لزاماً أن نعد هذا الإنسان الحقيقي. الإنسان الذي يهمه المصلحة العامة. الإنسان الذي يعرف أنه محاسب نظامياً قبل أن يقوم بصياغة أي مشروع يؤمل عليه المواطن، وأن يوضع في يد أناس عرف عنهم أنهم أكثر إخلاصاً لهذا البلد على مصالحهم الشخصية، فالحفاظ على الممتلكات العامة هو حفاظ للإنسان، وحفاظ الإنسان هو حفاظ للوطن. المواطن هو الهدف وحينما يكون المواطن هو الهدف فإن كل مشاريع التنمية سوف تذهب من أجل المواطن لكن لا بد قبل ذلك أن نربي الأجيال على هذا المفهوم. أعني مفهوم المواطنة الحقة التي تضع الاعتبار للوطن قبل الاعتبار للذات مهما كانت هذه الذات سواء كانت الذات الفردية أو الذات الجماعية المتمثلة في القبيلة أو الأقارب أو التوجه الفكري أو غيرها. القضية هنا قضية مصلحة وطن كامل وليس مجموعة أفراد أو مجموعات على حساب مجموعات أخرى أو مناطق على حساب مناطق أخرى، فالكل شريك في هذا الوطن، والكل لا بد أن يعمل على صالح هذا الوطن وليس لصالح فئة على فئة. إن مفهوم المواطنة الحقة يحاول البعض تغييبه منذ ثلاثين عاماً؛ بل وأكثر، وصار الحفاظ على الممتلكات العامة والمشاريع الوطنية ليس له أي أهمية في نظر كثير من المواطنين؛ فضلاً عن بعض المسؤولين فالولاء ليس لأرض هذا البلد بقدر ما هو ولاء للمسؤول كون المنفعة مترتبة على رضاه أكثر مما هي مترتبة على نظام عام يشمل الجميع ويحاسب الجميع ويضع الكل تحت طائل المسؤولية. والأهم من كل ذلك صياغة نظام يحفظ للمواطنين حقوقهم. كما يجب أن نربي أبناءنا على المطالبة بالحقوق إذ مازال المواطنون لا يعرفون حقوقهم ولا حتى واجباتهم، وإنما تدور المسألة في إطار الإدارة الارتجالية، وصياغة نظام عام يحفظ للمواطنين حقوقهم ويحد من التجاوزات الإدارية ويجعل الجميع أيا كانوا تحت مظلة المحاسبة القانونية. إن المهمة كبيرة جدا لكنها ليست مستحيلة، فقط تحتاج إلى من يرعاها بعناية حتى لا تصبح كارثة جدة في طي النسيان، بل لكي تصبح تاريخا لنا من الناحية الإصلاحية القانونية لكي نقول للأجيال اللاحقة إن الحياة كانت قبل كارثة جدة شيئاً والحياة بعدها شيء آخر، ولتصبح لنا كارثة جدة دافعاً للإصلاح أكثر منها دافعاً للخيبة، ولكيلا يغرق أبناؤنا في مستنقعات الفساد المستقبلية.