يا حي يا قيوم».. كان هذا الدعاء هو السر في فوز مصر على الجزائر بهدفين في القاهرة، هكذا صرح أحد «المشايخ»، فقد اجتمع فضيلته مع اللاعبين بعد أن خطب فيهم الجمعة وتحدث معهم بحضور مدربهم، وأنهم «جميعا تابوا إلى الله توبة نصوحاً»!! هكذا تناقلت الصحف ووسائل الإعلام ومواقع الإنترنت تصريح أحد «المشايخ» الذي برر فوز الفريق المصري في مباراته مع الجزائر على استاد القاهرة الرياضي، وأضاف فضيلته أن «فوز الفراعنة بهدفين نظيفين على الخُضر جاء استجابة لدعوات 89 مليون مصري»!!، ولا نعلم لماذا خسر هذا الفريق مرة أخرى عند لقائه بالمنتخب الجزائري يوم الأربعاء الماضي في الخرطوم، كما لا نعلم إذا كان أحد «المشايخ» قام بالدور نفسه في الجزائر، وما كلمة السر التي جعلت الجزائريين يُهزمون في القاهرة ويَهزمون في الخرطوم، ولم يقل لنا «فضيلته» لماذا لم يستخدم كلمة السر هذه أو غيرها من الأسرار في المرة الثانية، وإذا كان «سره باتع» فلماذا ترك فريقه يُهزم، بل لم يشرح لنا «فضيلته» كيف عرف أن «جميع اللاعبين تابوا توبة نصوحاً» ونحن نعلم أن التوبة تكون بين العبد وربه، ولا يطلع عليها أحد، فكيف عرف «فضيلته» أنها قُبلت، وأنها «توبة نصوح» أيضاً؟!!، ولا نعلم إن كان «فضيلته» قد حدثهم عن «إنما المؤمنون إخوة» و «أن المؤمن أخو المؤمن»، وأن الجزائريين عرب ومسلمون، وليسوا من «بني إسرائيل»!!، ولا نعلم كذلك إن كان «فضيلته» قد حذرهم من الدعوات العنصرية وأخبرهم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال عنها «دعوها فإنها منتنة»، ولا نعلم كذلك إن كان «فضيلته» قد أخبرهم أن كلمة «لعب» لم ترد في القرآن الكريم إلا في «موضع الذم»، وإذا كان «فضيلته» لم يخبرهم ذلك فلا نعلم -أيضاً- إن كان اللاعبون ومدربهم قد أخبروه أن الرياضة تحمل شعارا ثلاثيا يقول «الرياضة لعب وذوق وأخلاق»!!، ولا نعلم إذا كان الطرف الآخر أي الفريق الجزائري قد استخدم سلاح «الدين» في وجه خصمه حتى يفوز عليه؟!!، فلم تصلنا بعد أخبار «مشايخه» إذ يبدو أنهم مشغولون بمسيرات الفرح والابتهاج بالفوز التي راح ضحيتها حتى كتابة هذا المقال 14 قتيلاً، وأكثر من 125 جريحا، ولا نعلم بم سيحكم «المشايخ» هناك على قتلى المسيرات، وهل هم شهداء أم لا؟!! إن ذلك كله ومثله الكثير على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي حدث خلال الأيام الماضية، لكن ما يهمنا هو تسخير الدين أو قل العبث بالدين ليكون «تحت الطلب»! فيتم استدعاؤه كلما بدت الحاجة له حتى ولو كان ذلك من أجل مباراة لكرة القدم، وليست هذه الصورة إلا واحدة من صور تتكرر كل يوم يتم فيها تسخير الدين لمطالب كثيرة، وهناك من هو على استعداد أن يبحث و «يسخّر» الدين وأحكامه ومبادئه وفقا للأهواء السياسية أو لغيرها، فحين تكون الحرب مستعرة مع العدو الذي يحتل الأرض وينتهك العرض، فإن الفقهاء لا ينفكّون يرددون الآيات والأحاديث التي تحض على الجهاد والدفاع عن الدين والأوطان، وحين يميل هوى «السياسي» نحو الصلح والاتفاق مع العدو يتسابق بعض «المشايخ» للبحث عما يخدم هذا المسار فتبرز أحكام السلم والجنوح إليه والصلح، وحقن الدماء، وغيرها من الأحكام التي تخدم السياسي قبل أن تخدم الدين. وقد نجح كثير من الساسة في توظيف أو تسخير «بعض» العلماء والمشايخ لإعطاء المشروعية لكثير من تصرفاتهم وقراراتهم، وكان من المتصور أن يتم تلقي مواقف العلماء والمشايخ لو أن هذه الآراء كانت معبرة عن آرائهم الشخصية وفق تطور فكري لا يحمل الحكم الشرعي، وكان من الممكن أن يكون ذلك معبّراً عن رؤيتهم للحالة المعروضة عليهم بظرفها الزماني والمكاني، وكان من المتصور قبول هذه الآراء لو أنها لم تتعارض مع ما كان عليه رأيهم في ذات القضية، أما أن يكون ذلك الأمر نقيضا أو مخالفا لما كانوا عليه، فإن الأمر لا يخلو من «تسخير». إننا لسنا بحاجة لتأكيد أهمية الدعاء والوعظ والتوجيه في حياة الإنسان، ولسنا في موطن التقليل من ذلك، لكن أن يتم «تسخير» الدين من أجل «مباراة لكرة القدم» فإن ذلك يعني أن هناك خللا في الفهم أو الممارسة للقيم الإسلامية وتبسيطاً لمعانيها العظيمة، وتوظيفاً لها في غير محلها، إن مثل هذه المواقف تفتح الباب على مصراعيه أمام كل من يحاول الإساءة للدين أو لقيمه، ويجعل من تصرفات «البعض» حجة على الدين وليس على هؤلاء «البعض»، بل إن كثيرا ممن ينادون بعزل الدين عن السياسة أو شؤون الحياة يهرعون لاستخراج مبادئ الدين ومفاهيمه وتوظيفها لمصلحتهم. «تسخير» الدين أصبح حالة سائدة في معظم مجالات الحياة، فحين يريد أحدهم أن يروّج لبضاعة ما فإنه يعطيها صفة «دينية» حتى تجد لها قبولا في «السوق»، وحين يريد أحدهم أن يبحث له عن مشروعية فإنه يفتح أدراجه ويستخرج أحكام الدين حتى يستمد منه هذه المشروعية، فإذا حقق مأربه أعاد أحكام الدين ومبادئه إلى تلك الأدراج، وقد أسهم بعض «علماء» الدين في هذه الحالة من خلال تبعيتهم لصاحب القرار، في مشهد يكاد «يُستنسخ» من التاريخ الكَنَسي، حين كان رجال الدين «أدوات» بيد رجال السياسة يحركونهم كيف يشاؤون. لقد أشرت في مقال بعنوان «عندما تتحول الرياضة إلى معركة» نشر في مكان آخر إلى استغلال السياسة لهذه المباراة وغيرها لتمرير أجندتها، وها هو الدين يتم «استغلاله» من أجل أجندة السياسة أيضا، ولكن من باب الرياضة. إن علماء الدين ورجال السياسة والرياضة والإعلام الذين ربطوا كرامة مصر والجزائر ومكانتهما وسيادتهما بنتيجة مباراة لكرة القدم أساؤوا إلى مصر والجزائر معاً، فمكانتهما أكبر من أن تختزل في ذلك، ومن الإهانة لهما وللعرب جميعا أن يتم تصوير الفوز بالمباراة أو الخسارة فيها على أنه مساس بسيادتهما أو نيل من مكانتهما، وأن يتم شحن الشعبين بالكثير من الأحقاد التي ستحتاج إلى أمد طويل حتى تزول آثارها، ونسي أولئك عمق الروابط التي اختلطت فيها دماء الجزائريين والمصريين على أرض الجزائر ورمال سيناء. لقد سمح «المحرضون» في كلا البلدين بأن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه لأسباب كثيرة، ولتحقيق غايات لا علاقة لها بمصلحة الشعبين. وإذا كنا نتصور أن لكل أولئك مصالح في الإثارة، فما مصلحة علماء الدين في ذلك؟ لقد كان الأولى بهم أن يكونوا «محضر خير»!!