المتابع للتحركات السياسية السعودية في المنطقة خلال السنوات الأربع الماضية، سوف يلاحظ أن الرياض تبدو أكثر حضوراً ونشاطاً، بل ربما أكثر اهتماماً، بتطورات العملية السياسية في لبنان، مقارنة مثلاً بحضورها ونشاطها بما يحدث في اليمن، أو في العراق. هذا على الأقل ما تشي به تحركات السياسة الخارجية السعودية في العلن. خلف السواتر الدبلوماسية، لا أحد خارج دائرة صناعة القرار يعرف شيئاً عن ما تقوم به السعودية، وبما يؤكد أنه مختلف عما توحي به التحركات العلنية. هذا مع العلم بأن عدم إعلان الدولة عن قيامها بتحركات سياسية بالنسبة لهذا الملف أو ذاك لا يعني بالضرورة أن هذه التحركات لم تحصل. بل إن بعض الملفات قد يتطلب التعامل معها وفقاً لمبدأ "قضاء الحاجات بالكتمان". كانت هذه الملاحظة عن تباين الأداء السياسي السعودي أحد المواضيع التي تناولها لقاء مع صديق سعودي على عشاء في أحد مطاعم الرياض. على خلفية هذه الملاحظة طرح صديقي السؤال مباشرة: لماذا كل هذا الاهتمام السعودي بلبنان؟ فاجأني السؤال. أجبته بسؤال آخر: ولم لا؟ انتظاراً لتفاصيل الرؤية المختلفة التي ينطوى عليها سؤال صديقي. وجاءت إجابته سريعة: حالة الجوار، ومنطق المصلحة النابع منها يفرض أن يتركز اهتمام الدبلوماسية السعودية على اليمن والعراق أولاً، وليس لبنان. اليمن والعراق أقرب إلى السعودية، وبالتالي فالأوضاع فيهما أكثر تأثيراً، سلباً وإيجاباً، على المصالح الأمنية والسياسية والاقتصادية السعودية من لبنان. لبنان كما يقول صديقي يقع بعيداً في منطقة الشام، بينما يقع اليمن في الجزيرة العربية، والعراق هو الامتداد الطبيعي للجزيرة العربية أيضاً. أطول حدود للسعودية هي تحديداً مع العراق في الشمال، ومع اليمن في الجنوب. لم يغفل صديقي إمكانية أن السعودية تتحرك خلف الكواليس، خاصة في موضوع اليمن، بما يتفق مع مرئياته، لكنه كان ينطلق في حديثه مما يدور علناً على المسرح السياسي في المنطقة. لكن هناك مبررات كثيرة قديمة وحديثة في أن يكون الاهتمام السعودي بلبنان كبيراً نظراً؛ لأنه جزء من الشام تحديداً. وهذه منطقة كانت ولا تزال أيضاً امتدادا طبيعيا للجزيرة العربية، خاصة منذ دخولها الفضاء العربي أواخر القرن السابع الميلادي. هناك تاريخ قديم من التداخل الاجتماعي والقومي والديني، بما في ذلك تقاطع المصالح السياسية بين الجزيرة والشام. إلى جانب ذلك، تمثل الشام بالنسبة للسعودية في عصر "الدول الوطنية" ما يمكن أن نسميه بالحاجز الأمني من جهة الشمال الغربي للجزيرة. ولأن لبنان جزء من الشام، لا تستطيع السعودية تجاهل تأثيره على سوريا. يرتكز الواقع السياسي اللبناني على طائفية جعلت منه ساحة مفتوحة لتدخلات إقليمية تجمعها في حالات معينة مصالح متجانسة، وفي حالات أخرى متناقضة. سوريا تعتبره حديقتها الخلفية، أو خاصرتها الرخوة، خاصة لناحية أنه يقع بينها وبين إسرائيل. ما يقلق السعودية حالياً، ومعها مصر، أن هذه التركيبة اللبنانية سمحت أخيراً للنفوذ الإيراني بإيجاد موقع قدم له في هذا البلد العربي من خلال "حزب الله"، الذي تمده طهران بقدرات عسكرية تفوق ما تملكه الدولة اللبنانية نفسها. والمثير للقلق أن موقع النفوذ هذا يتكامل مع الموقع الآخر الذي حصلت عليه إيران من خلال "المجلس الإسلامي الأعلى" في العراق. ومن الطبيعي أن تكون السعودية معنية بالحد من هذا النفوذ وآثاره على مصالحها في المنطقة. من ناحية أخرى، يتداخل الوضع اللبناني مع القضية الفلسطينية، ورمزيتها الكبيرة بالنسبة للسعوديين. اهتمام السعودية بلبنان له مبرراته الكثيرة؛ فمنطقة الشام امتداد طبيعي وتاريخي للجزيرة العربية، وتمثل الحاجز الأمني من جهة الشمال الغربي للسعودية. السعودية مقتنعة بأن اهتمامها بما يحدث للبنان وفي لبنان، له ما يبرره. وهي مقتنعة أيضاً بأن تعاونها مع سوريا في الشأن اللبناني هو السبيل الأنجع لتحقيق مصالحهما معاً، ومصالح لبنان. وهذا ما كان يحصل من قبل، وأنتج اتفاق الطائف. لكن تطورات الأعوام الأخيرة منذ وفاة الرئيس السوري السابق حافظ الأسد، وانتقال الحكم لابنه بشار، واغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، دفعت بدمشق إلى الاعتماد على إيران بشكل غير مسبوق. وقد ترك هذا التطور أثره على العلاقات السعودية السورية. هناك محاولات للعودة بهذه العلاقات إلى ما كانت عليه، لكن يبدو أنها محاولات لم تكتمل بعد. لا يجادل صديقي في كل ذلك، لكنه يريد أن توضع الأولويات حسب ترتيبها الطبيعي. فالاهتمام السعودي باليمن والعراق ينبغي أن تكون له الأولوية على غيره حالياً. هذا لا يعني، كما يقول، تخلياً أو انسحاباً. على العكس، من الممكن أن تستمر السعودية في مساعدة لبنان سياسياً واقتصادياً، لكن اهتمامها الرئيسي يجب أن يكون منصباً قبل أي شيء آخر على محيطها المباشر. يجب ترك الاهتمام الرئيس بالشأن اللبناني لسوريا باعتبارها الدولة العربية الوحيدة المجاورة له، ويقع بينها وبين إسرائيل. سوريا هي الأكثر تأثراً بأوضاع لبنان الأمنية والسياسية. ومع مشروعية الاهتمام بالحد من النفوذ الإيراني في لبنان، فهو يرى أن سوريا هي التي ستتولى هذه المهمة. مصالحها الحيوية لا تسمح لها بترك هذا النفوذ يتمدد؛ لأن هذا سيكون على حسابها. التركيبة اللبنانية بدورها لن تسمح بهيمنة طائفة على أخرى، حتى "حزب الله"، ومع الدعم الإيراني له مالياً وعسكرياً، لا يستطيع تحقيق ذلك. بل إن سوريا نفسها لن تسمح بحصول مثل ذلك لأنه يضع سياستها رهينة لمصالح هذا الفريق، بدلاً من أن يكون هو رهينة لها. هنا يبدو الاهتمام السعودي بلبنان وكأنه يدفع سوريا للارتماء في أحضان إيران، وليس العكس. هذه وجهة نظر جديرة بالتأمل فيها، خاصة في إطار فرضية أن الأولويات يجب أن لا تتعارض مع تداخل المصالح والمصائر العربية. بل لعل الاهتمام السعودي بالأوضاع في لبنان مرتبط بما يحدث في العراق واليمن، خاصة لجهة النفوذ الإيراني. هذا النفوذ موجود الآن في العراق نتيجة للاحتلال الأميركي، والسعودية أول من تحدث عنه. ولعل اهتمامها بالحد من النفوذ الإيراني في لبنان يهدف أساساً إلى محاصرة هذا النفوذ في العراق. السؤال: لماذا يستمر الغياب السعودي عن هذا البلد العربي؟ أما بالنسبة لليمن، فالوضع هناك يختلف بدرجة تفرض الاهتمام بما يحدث له، ربما أكثر من غيره. اليمن ليس تحت احتلال أميركي يفرض تداخلاً في المصالح. على عكس العراق، يعاني اليمن من شح الموارد، وانتشار الفقر، وضعف الدولة في مواجهة القبيلة. حالياً، يواجه اليمن ثلاثة تحديات خطيرة في آن واحد: تمرد الحوثيين في منطقة صعدة المجاورة للسعودية، وبروز حركة سياسية معارضة تتنامى في الجنوب، وينادي بعض أقطابها بالانفصال. ثم هناك تحدي "القاعدة" المزمن. التحدي الأخير هو الأقل خطورة. لكن الغريب أنه أمام كل ذلك تبدو الحكومة المركزية في صنعاء في حالة شلل، وعاجزة عن اتخاذ الخطوات المطلوبة للخروج من المأزق. مع الحوثيين تبدو، وبعد خمس سنوات من التمرد، وكأنها غير قادرة لا على الحسم العسكري، ولا على إيجاد حل سياسي. يقال إنها تريد إطالة أمد التمرد للحصول على مزيد من المساعدات الاقتصادية، خاصة من السعودية. ويرى البعض أن هذه السياسة نتيجة طبيعية لحالة الفساد المستشرية في صنعاء. أما في الجنوب، فتصر حكومة علي عبدالله صالح على تجاهل التعامل مع مطالب المواطنين وشكاواهم هناك، وما يتطلبه ذلك من إصلاحات سياسية تأخر الأخذ بها كثيراً. وهذه، مضاف إليها تدهور الأوضاع الاقتصادية، مؤشرات على أن حقبة الرئيس صالح، والتي بدأت عام 1979، آخذة بالتفسخ، وأنها تقترب من نهايتها. خصوم الرئيس، وهم كثر هذه الأيام، يضعون مسؤولية ما آلت إليه الأوضاع عليه هو قبل غيره، خاصة لناحية استفراده بالسلطة، وتحويلها إلى مغنم عائلي. آخر هؤلاء النائب حميد بن عبدالله الأحمر، نجل الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر الذي توفي مؤخراً وكان رئيس مجلس الشورى. كان الشيخ الراحل من أقرب حلفاء الرئيس. لم يكتف النائب حميد بالمطالبة بتنحي الرئيس صالح وتغيير النظام السياسي، بل هو مستعد لأن يضع يده مع رئيس اليمن الجنوبي سابقاً، علي ناصر محمد، لتحقيق هذا الهدف. وهو بهذا يعلن عن تضامنه مع قيادات الحراك السياسي في الجنوب التي تؤمن بوحدة اليمن. بعبارة أخرى، يجد الرئيس علي صالح نفسه، ومعه الدولة، في مواجهة حركات معارضة سياسية وعسكرية تتنامى في الشمال والجنوب. وهذا يضع مستقبل اليمن برسم سؤال محرج في هذه اللحظة. هل تحتمل السعودية التهاون مع وضع مثل هذا يتصاعد على حدودها الجنوبية؟