عبدالله بجاد العتيبي - الإتحاد الإماراتية عاش العالم الإسلامي لعدة قرون حالةً من الركود والجمود، تمثلت في الجانب السياسي في حالة التشرذم والدويلات الصغيرة في شرقه وغربه، وفي الجانب المذهبي إلى مذاهب فقهية جامدة ومكرورة، وكانت علامتها الشد والتمطيط، في التمطيط نجد الشروح والحواشي والهوامش، وفي الشدّ نجد الاختصار والتلخيص والضغط، وتمّ قتل الإبداع وتجريمه، ونشر التقليد وتكريسه، وصار المبدع متهماً بالابتداع، والمقلد البليد مقدماً ومكرماً، وكان الاحتفاء بالحفظ والتكرار كمفرداتٍ للتقليد، واستبعد الفهم والابتكار كمفرداتٍ للابتداع، وباختصار كانت القصة "قفل باب الاجتهاد"، الذي أقفلت معه كل أبواب التقدم العلمي والفكري والسياسي والاجتماعي وغيرها. من طبيعة الأشياء أن يتململ البشر من هكذا حياةٍ، وأن تتحرك المجتمعات بسبب أو بآخر للقضاء على هكذا حالةٍ، وهكذا كان، فقامت توجهات متعددة المشارب والأهداف لتغيير هذه الحال، والدخول من خلال ثقوب المشهد السائد لتفتيته وبناء حياة جديدة للبشر وحالة جديدة للمجتمعات، فقامت حركات إصلاحية متعددة، في أماكن مختلفة من العالم الإسلامي، وسعى كل منها إلى بناء منهجية جديدة تزيل هذه التراكمات التاريخية، وتُعمل فيها أدوات النقد والتمحيص والمراجعة، وتبني طرقاً تراها أقرب للفائدة وأخلص للإسلام، فخرجت في نجد الحركة الوهابية، كما يسمّيها بعض علمائها وبعض خصومها، وخرجت في السودان حركة المهدي، وخرجت في تركيا حركة النورسي، وخرجت في ليبيا حركة السنوسي وغيرها، وكان الجامع بين هذه الحركات مع مراعاة الفوارق التاريخية هو الانتفاض على السائد والمألوف المليء بالأخطاء والخرافات، والسعي إلى التغيير والتصحيح. لقد كان لكل من هذه الحركات ظروفه التاريخية، ومعطياته الواقعية وتوجهاته وأهدافه الفكرية والعلمية والسياسية، ولها بالتالي تأثيراتها المتباينة على الحراك الفكري والسياسي والاجتماعي وتوجيهه وقيادته، ولكنّها بشكل عام أثّرت على واقع العالم العربي والإسلامي، ورمت أحجاراً ضخمةً في بركته التي كانت شديدة الأسونة. وقد نجحت أكثر هذه الحركات، وكان للوهّابية نصيب الأسد من ذلك النجاح، فهي لم تنجح فكرياً، فحسب بل نجحت كذلك سياسياً، واستطاعت المحافظة على قدرتها في البقاء والتأثير لقرون، ومن الطبيعي أن يكون له أثر ظاهر في الواقع وامتدادات وتداخلات مع كثير من الأفكار الجديدة والمتغيرات الحديثة. حتى لا يستدرجنا الحديث عن التاريخ على أهميته وتأثيره فإنّنا سننتقل إلى رصد مختصر للخلفية التاريخية للمشهد الذي جعلناه عنواناً لهذا المقال، من هنا يجدر القول إن المدارس السلفية التقليدية متعددة ومتباينة، وكان يمثّلها عدد من الاتجاهات في عدد من الأماكن، فكانت السلفية الوهابية التي يمثلها علماء الدعوة النجدية، وكان يعمل بالتوازي معها مدرسة أهل الحديث، وهي مدرسة لها ثلاث منابت: مدرسة أهل الحديث في الهند، وهي ضاربة الأطناب في التاريخ، ومتواصلة الحضور في الواقع، ومدرسة أهل الحديث في اليمن، التي كانت امتداداً لابن الوزير والشوكاني والصنعاني، وقادها مقبل الوادعي لاحقاً، ومدرسة أهل الحديث بالشام التي كانت امتداداً للقاسمي ومحمد رشيد رضا وقادها الألباني لاحقاً. بينما كانت الحركية الإسلامية الحديثة ذات منبعين أصليين: الأول في الهند مع أبي الأعلى المودودي ومن تبعه من علماء ندوة الهند كأبي الحسن الندوي وأمثاله، والثاني في مصر حيث حسن البنّا وجماعة "الإخوان المسلمون". لقد خاضت هذه التيّارات معارك كبرى غيّرت خارطة العالم الإسلامي، وبخاصة في مجال الفكر والفقه والسياسة والمجتمع، فأولاً: لقد كانت معركة الوهّابية الأكبر مع البدع والخرافات التي انحرفت بالدّين عن منبعه الأصلى ومبادئه الكبرى ورفعت شعار "التوحيد" لمحاربة تلك الانحرافات، وخرجت من هذه المعركة ظافرة في كبريات مسائلها بغض النظر عن بعض التفاصيل. وثانياً: كانت معركة مدرسة أهل الحديث الأكبر مع التقليد المذهبي وإغلاق باب الاجتهاد، وقد خاضتها على جبهاتها الثلاث في الهند واليمن والشام، وخرجت منها ظافرة بعد أن قلّمت أظافر المذهبية التقليدية وأحرجتها في مسائلها الكبرى المتعلقة باتباع النص مباشرةً بعيداً عن التقليد المذهبي الذي ظل لزمنٍ طويلٍ مسيطراً على العالم الإسلامي في عصور صارت تسمى لاحقاً بعصور الانحطاط، ونتذكّر هنا معارك أهل الحديث في الهند ومؤلفاتهم الكثيرة في هذا المجال، وكذلك مؤلفات وفتاوى الشوكاني والصنعاني في اليمن، وكذلك مؤلفات وفتاوى القاسمي والألباني في الشام، وهذا حديث يطول. أمّا بالنسبة للحركية بمنبعيها الأصليين، فقد خرجت هي كذلك ظافرة إلى حدٍّ ما، ففي الهند توّج توجّه المودودي الحركي بإقامة دولة باكستان وامتداد تأثير أفكاره عبر القارات، وأثار أسئلة سياسيةٍ تتكيء على الدين وتنطلق منه غيّرت مشهد الفكر الإسلامي لاحقاً، ويكفي أن نتذكر تأثر سيّد قطب والخميني على تناقضهما بأفكاره، أما في مصر، فقد استطاع حسن البنّا أن يحوّل الجدل القوي في وقته الذي كان يبحث عن سبل إعادة "الخلافة الإسلامية" إلى جماعة سياسيةٍ تتكيء على الدين وتنطلق منه لأهدافٍ سياسية، وقد استطاع تحويل الولاء والطموح من كونه ولاءً لفكرة "الخلافة" إلى جعله ولاءً لفكرة "الجماعة"، التي تقود بدورها إلى فكرة "الدولة الإسلامية"، التي كان يسمّيها المودودي كما الخميني من بعد ب"الحكومة الإسلامية". من طبيعة التاريخ والأشياء والمجتمعات أنّ هذه التيارات لم تكن كتلاً صلبةً منفصلةً تمام الانفصال، بل لقد كان بينها شيء من التواصل والتداخل، مع شيء من الاختلاف والتباين، وعلى سبيل المثال ففي المدارس السلفية الثلاث المذكورة أعلاه، كان ثمة تواصل من نوعٍ ما فيما بينها، فقد كان في الوهابية من يميل لمدرسة أهل الحديث كالشيخ سليمان بن عبدالله بن محمد بن عبدالوهاب صاحب كتاب "تيسير العزيز الحميد"، كما أنّ الشوكاني قد أثنى على الدعوة الوهابية في بعض مؤلفاته، وقد كتب الصنعاني قصيدة يمدح فيها إمام الدعوة محمد بن عبدالوهاب، وفي زمن الاضطرابات السياسية بين أبناء فيصل بن تركي، أرسل أحد أئمة الدعوة النجدية حمد بن عتيق ابنه سعد إلى أهل الحديث في الهند، ومكث عندهم ما يقارب العشر سنواتٍ، ثم عاد، وكان من علماء نجد الكبار الذين قدّموا دعمهم للملك عبدالعزيز في استعادة الحكم في الجزيرة، ومن أشهر تلاميذه الذين شكّلوا امتداداً لمدرسته التي تجمع بين الوهّابية والحديثية الشيخ عبدالعزيز بن باز، الذي سيكون له لاحقاً دور محوري في حراك العالم الإسلامي. هذه مرحلة مهمة لتوطيد البحث حول لقاء السلفية بالحركية، وهو اللقاء الذي كان ولم يزل له أبلغ الأثر في الحركات الإسلامية المؤثرة في العالم المعاصر، ويجب أن يكون حاضراً في أذهاننا، ونحن نقرأ مشاهد الماضي القريب أنّه ليس من حقّنا أن نصدر أحكاماً بالصحة والخطأ على هذا التوجّه أو ذاك، لأن من الخطأ أن نطبّق شروط واقعنا اليوم على ظروف مختلفة بالأمس، وهو خطأ يوازي في درجته اعتماد أحكام الأمس على متغيرات اليوم كما يفعل كثيرون من المتشبثين بالماضي حين يصدرون أحكامهم الجائرة على تحدّيات الواقع ويعاندون شروطه. وتلك قصة أخرى.