مرة أخرى يبدو أننا نتجه من تلقاء أنفسنا لإعادة ترتيب معادلة للجدال الذي لا ينتهي وذلك حين نعيد صياغة الجبهات على أنها ما زالت هي المؤثر الأبرز في الحركة المعرفية والتنموية في السعودية، بل يبدو أن هذه المعادلة موشكة على أن تنطلي علينا إما إيمانا بها وتولعا منا بحياة الجبهات إذ لا نستطيع الحياة خارجها، وإما لكي ندافع عن أنفسنا ونرفع راية الاعتدال حينما نتحدث عن فريقين. فكرة الحديث عن فريقين متطرفين وعن موقف وسط بينهما ، فكرة تحمل نوعا من محاولة إعلان النزاهة وعدة القدرة على مواجهة التيار الذي هو بحاجة إلى مواجهة، التيار الذي ضل طريقه و الذي انقلب إلى حرب ومعارك مع أبناء الوطن، وساعد في تأخير التنمية وتوجيه مختلف الفعاليات الوطنية من كونها خادمة للوطن ولمصالحه لتصبح خادمة للقناعات والتحزبات والأفكار الأممية، ويمثل في كثير من خطاباته خروجا على فكرة الكيان الوطني الواحد، ويتعامل مع وطن مشروط وفق معاييره هو، ويتشعب لينتج خطابات كان أكثرها حدة هو الذي أراق الدماء في شوارعنا ومن رقاب أبنائنا. وجد المواطنون أنفسهم في مواجهة مع الخارجين والمنحرفين من بعض أبنائهم، وكان التوفيق حليف المعنيين بمباشرة هذه المواجهة إذ كانوا ينطلقون في علاج ما يحدث من فكرة أنهم أبناؤنا الذين ضلوا الصواب ولا بد من مساعدتهم على تجاوز هذا الخطأ، وسواء أكانت تلك المعالجة ظرفية أم مستمرة فقد آتت نتائج كبرى كان أبرزها وأهمها أنها حافظت على اللحمة الوطنية العظيمة التي غالبا وفي كثير من دول العالم ما تكون أول المتضررين من أي أحدث أمنية داخلية. واجه السعوديون بأكملهم ذلك الخطر واستطاعوا أن ينتصروا عليه، عدا أن مثل تلك الأحداث لا يمكن أن تمر دون أن تترك فعاليات ومواقف إعلامية وثقافية مناهضة لها وتسعى لتفكيك وقراءة خطابها من مختلف الجوانب، وفي الواقع فإن هذه الفعاليات هي العدو الحقيقي والخصم الفعلي للتطرف والتشدد. الذين يتقاطع خطابهم وتدينهم التقليدي مع التطرف والتشدد وجدوا أن الوطن بأكمله يقف ضدهم وضد تطرفهم وأن الحياة السعودية لا مكان فيها لمن لا يؤمنون بالوطن أصلا، فاتجهوا إلى أن يصنعوا خصوما آخرين، وجبهة مقابلة مفتعلة. الآن، وبعد أن انتصر السعوديون على من أرادوا أن يكسروا كل تلك المنجزات الوطنية الكبرى، يبدو أننا الآن نعيش آثارا انسحابية ضارة تتضح في أشكال الوصول إلى رؤية معرفية نفرق بها بين التدين الذي لا نريده والتدين الذي نريده. الخطابات العليا في القيادة حسمت موقفها مبكرا، بل هي أكثر شجاعة ممن ما زالوا يؤجلون الحسم ويسوقون معادلة غير موفقة للوسطية والاعتدال. القيادة أدركت مبكرا أن الغلو والتشدد والتطرف أبرز خصوم الحاضر وأبرز من يهدد المستقبل السعودي، وأن المملكة لديها مسؤولية تاريخية أمام العالم في أن تكون مركزا لتقديم نموذج الاعتدال والوسطية والتعايش فاتجهت إلى تحويل الحوار من فعالية إلى مؤسسة وفتحت للعالم منافذ واسعة للحوار عبر مبادرات للسلام والحوار بين الحضارات. الاعتدال والوسطية لا يعنيان اتخاذ موقف وسط بين فريقين، لكنهما يعنيان وسطية واعتدالا في التدين نفسه، وفي فهمه والتمسك به، دون الحاجة إلى ابتكار خصوم لا وجود لهم. فهناك ملامح ومواقف وأحداث وتاريخ من المعاناة والمواجهة الوطنية مع التشدد والتطرف الديني بينما لا يوجد أي تطرف آخر قد مررنا معه بذات التجارب. أصدقكم القول، إن الخائفين من الصواب، ومن المستقبل، ومن الحقيقة هم الذي سيعيدون الحركة الإعلامية والثقافية السعودية إلى منطقة الصراع والتحزبات، عبر الانصياع لهذه اللعبة التي يبتكرها خصوم الوطن والخائفون منهم ومن التصدي لهم وغير القادرين على استيعاب أن الاعتدال يفترض به أن يكون مشروعنا الثقافي مثله مثل الحوار الوطني والتنمية، ليمثل أرضية تنطلق منها عملية البناء. يبدو أنه صراع بين الوطنية والتطرف، وليس بين التغريب والتطرف، فالتطرف الديني هو الذي يؤمن بالشمولية، بينما الأفكار المدنية لا تؤمن أصلا بالشمولية وليس لها أي طابع تبشيري. والحديث المفتعل عن تيار آخر وبما فيه من أخطاء نظرية وواقعية هو أول داعم ومقو ومساعد على عودة حركات التطرف والتشدد. أتصور أنك لو استوقفت شابا أو فتاة في أي طريق وسألته ماذا فعل التشدد والتطرف من أذى في هذه الوطن العظيم لتحدث إليك طويلا، إنما اسأله أيضا عن التغريبيين فقد لا يستطيع أن يقول لك أكثر من أنهم هم الذين قد يأكلون باستخدام اليد اليسرى، وإلا فليس لديه في تاريخه السعودي سوى خصم واحد هو الذي ملأ شوارعه بالحواجز الأسمنتية وجعل صورته في العالم مادة للشك والحذر.