د. أحمد بن صالح الزهراني - الاسلام اليوم قال لي صديق مرة: هل سمعت الخبر؟ قلت: ماذا؟ قال: فلان الشيعي رفع دعوى قضائية قذف ضد الشيخ فلان.. قلتُ: وماذا في هذا؟ ليرفع الدعوى وليحكم فيها القضاء بالقسط؛ فالله يحب المقسطين. فمطّ صاحبي شفتيه متعجباً.. إذ كان مستعظماً أن يتجرّأ فلان، وهو من فئة أخرى نخالفها على رفع دعوى ضدّ الشيخ فلان. فأقول ما يلي: من الواضح أنّنا على الرغم من اعتراضنا على كثير من صور الظلم والتمييز الّتي تنهش مجتمعاتنا، إلاّ أنّ كثيراً من فئاته قد تجرّعت مثل هذا التمييز، وساغته حتّى انقلبت المفاهيم؛ فأصبح من المنكر أن يرفع شخص وضيع في نظرهم (فئة أو جنساً أو ديانة أو طائفة) قضية يرى له فيها حقاً ضدّ شريف في نظرهم (فئة أو جنساً أو ديانة أو طائفة)، وهذا في رأيي من عجائب ما يراه المتأمّل في حال المجتمعات العربية، وطريقة تكريس المفهوم الخطأ وتقبّله، ومن ثمّ مقاومة أي محاولة للتغيير أو التصحيح بدعوى الدفاع عن الحرمات والرموز والثوابت. وأصبحنا نرى تدخل الخيّرين لإصلاح ذات البين وتسوية الخلاف خارج ساحات القضاء. على المستوى الشخصي لا أمانع من أن يحصل الشخص على حقه بالصلح والتفاهم.. لكني أرفض أن يكون سبب هذا هو استحالة أو صعوبة رفع الدعوى على شخص ما لمكانته الدينية أو الاجتماعية أو السياسية.. يجب أن نكون جميعاً عرضة للتحقيق والسؤال والمثول أمام سلطة القضاء دون أي خوف أو تعلل، ما دمنا نثق في عدالة القضاء ونزاهته. من المهم والمُلِحّ ونحن نعيش حالة من التصحيح تتّجه في مجملها نحو الأفضل أن نكرس مبدأ أن لا أحد مُحصّن ضدّ المنازعة. في ظلّ دولة القانون والنظام يحق لكل أحد أن ينازع أيّ أحد أمام القضاء، ينازعه حقاً يرى أنّه أولى به، سواء في ذلك مادياً كان أو معنوياً، ويبقى تحديد نهوض الدعوى من عدمها، ومن بعد ذلك الحكم في الدعوى من صلاحيات القضاء المطلقة الّتي يجب أن تكون أعلى سلطة في كلّ مجتمع يحترم قيم العدالة والمساواة. أعلم جيداً أن الوصول إلى تلك الحالة مازال بعيداً، لكني في نفس الوقت أحترم وأقدّر أوّل خطوة في هذه الطريق، وهو الإقرار بحق أي شخص أن يرفع قضية ضد أي شخص، دون تردّد أو تعلّل أو إعاقة، مهما كانت منزلة هذا المُدّعى عليه في الأمّة أو المجتمع. وعندما أقول: «الإقرار» فإنّ أملي ومطالبتي لا تتوقف عند مجرد تصريحات لا تجد مكاناً تقع فيه أوتهبط عليه، بل يجب أن يكون هناك حزمة من القرارات والإجراءات الّتي تجعل من مسألة رفع دعوى ضد أي شخص أمراً سهلاً ميسوراً، لا يحول دونه من الطلبات والإجراءات والروتين والبيروقراطية ما يشكّل خندقاً يعسر - إن لم يستحل - على أكثر الناس تجاوزه. فكثير من الحقوق تضيع وتذوب في أيدي بعض الناس لا لأنّه ليس وراءها مطالب، ولا لأنّ الظالم يملك من الوسائل ما يمكنه من كسب القضية وإسقاط التهمة؛ فهذه أمور تحدث في مجتمعات أخرى، وهذا مع سوئه وانحطاطه إلاّ أنّه وضع متقدم عمّا نعيشه في مجتمعات مازالت بعض فئاته غير قابلة للمثول أمام جهات قضائية أصلاً، خاصة إذا كان الخصم ضعيفاً أو مغموراً. ومع الحفاظ على حقوق الناس وحمايتهم ضد الشكاوى الكيدية، ودعاوى المصالح الشخصية والأهواء فإنّه يبقى تسهيل الأمر على المدّعي هو الأصل؛ فتيسير رفع الدعوى وتسهيل أمرها على أصحاب الحقوق لا يقلّ أهميّة عن الحكم النهائي في القضية الّذي يوصل الحق لأصحابه، وأنا على مثل اليقين أنّ أيّ نظام قضائي يضع العراقيل ويعسّر على صاحب الحق قيامه برفع دعوى ضدّ أيّ شخص لا يوثق بأحكامه النهائية. ما تقدم ذكره كلام يمكن أن يُقال في أيّ مناسبة يُتحدث فيها عن قيم المساواة والعدالة، لكنّ الفضيلة والحق ينزفان دماً حين يكون داخل الصف الإسلامي المنادي والمقاتل من أجل تحكيم الشريعة من يجلّ ويكبر أن يُدّعى على عالم أو داعية، خاصة إذا كان الخصم في غير عين الرضا، وهذا واقع لا يمكن تجاهله. العاطفة الدينية أمر إيجابي، لكن حين تكون هذه العاطفة بلا عقل ولا تقوى فإنّها تجور، ومن عادة النفس أنّها تميل إلى جانب الضعيف مثلاً ضد القوي، والفقير ضد الغني، مع أنّ القوي أو الغني قد يكون هو المظلوم، ولهذا قال تعالى: (إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ). وإذا أخذنا من هذا عبرة فإنّنا –والله- لن ننصر، ولن يكون لنا عند الله – ومن ثم عند الناس - القبول حتى نعطي الحق من أنفسنا، وننصف منّا أعداءنا قبل أوليائنا، وأن يكون لأفجر الناس الحق في الدعوى على أتقى الناس، وهكذا كان محمّد -صلّى الله عليه وسلّم- وأصحابه، ألم يقبل النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أن يكون محل دعوى مع الأعرابي الذي ابتاع منه الفرس وطلب من يشهد له؟! ألسنا نفاخر بالقصة المشهورة في مثول علي بن أبي طالب أمام شريح القاضي بسبب دعوى يهودي؟! ألم يقبل عمر الفاروق دعوى القبطي ضد عمرو بن العاص؟! الأمثلة كثيرة في تاريخنا.. لكنها استحالت نوعاً من الفخر والخيلاء بدلاً عن أن تكون عظة وعبرة للتأسي والاقتداء.. والله المستعان.