د.خضر محمد الشيباني - المدينة شغلتني هموم (التعليم) خلال الأربعة أسابيع الماضية، وهي هموم جديرة بأن تكون لها الأولوية، وخلال هذه الأسابيع مرّت تحت الجسر مياه كثيرة، ومن أهمها ذلك (الطوفان الأوبامي) الذي أطلقه خطاب الرئيس أوباما في القاهرة لينسلّ بعده - كعادته - في هدوء ودعة، تاركًا تداعيات مقولاته تفعل فعلها على الساحة العالمية، تمامًا كما فعل ذلك من قبل داخل أمريكا إبّان طوفان بروزه المفاجئ على الساحة هناك، ثم حروبه الانتخابية مع كلينتون وماكين، وانتهاءً بانتصاره الكاسح في الانتخابات. لقد حظي (خطاب أوباما) باهتمام الجميع؛ فقد كان خطابًا تاريخيًّا لم يسبقه خطاب مماثل في توجّهه إلى العالم الإسلامي؛ وأما الجانب الذي لم أجد له حظًّا في طروحات المحللين، الذين شرّقوا وغرّبوا، فهو جانب هام وحيوي تطرّق له الأستاذ فايز صالح جمال في مقال في (جريدة المدينة) بعنوان: (خطاب أوباما: هل يخرج البليهي ومن على شاكلته؟)، وهو يتعلّق بالدرس البالغ الذي أعطاه أوباما عن حقيقة الحضارة الإسلامية، وأبعادها الصحيحة، وبصماتها التاريخية، لأولئك الذين انهمكوا في جهود عبثية يقلّلون من شأن حضارة أمتهم، ويطربون لزامر الغرب مهما كانت نغماته نشازًا.. يقول الأستاذ فائز جمال: (ما أزعجني في آراء الأستاذ البليهي - وهو المفكّر كما وصفه محاوره - أنها تجاوزت الموضوعية بكثير، فكل سيئات الغرب حسنات، بما في ذلك إبادة الشعوب واحتلال البلدان، وأما حسنات العرب والمسلمين وإسهاماتهم في التقدم العلمي والإنساني فقد جيّرها إلى الحضارة اليونانية برغم فارق الزمن الكبير الذي يفصل ما بين الحضارتين). في الوقت الذي أؤيد فيه ما ذهب إليه الأستاذ فائز جمال؛ إلاّ أنني أقول إن ذلك جزء يسير من المشكلة؛ فطرح أوباما في خطابه التاريخي لا يقف عند ذلك الحد، ولكنه يتجاوزه بكثير ليعرّي (الفكر الليبرالي) كما فهمه (الليبراليون العرب)، وليُبرز زيف خطابهم الذي يبثّونه بأشكاله السقيمة في كل مكان، وأما الأستاذ إبراهيم البليهي فلم يكن مشكلة يومًا ما؛ فالرجل قد اعترف بشجاعة على رؤوس الأشهاد أنه في (حالة انبهار) بالغرب وحضارته؛ وهذه الحالة، كما هو معلوم لأولي الألباب، حالة كسيحة من الافتتان؛ تشلّ الفكر، وتهدم الأسس الموضوعية للحوار؛ فهي تمامًا كحال المتيّم بمعشوقته؛ لا يرى في أوصافها إلاّ جمالاً، ولا يجد في حركاتها إلّا بهاءً، وهي (حالة نفسية) لا علاقة لها بالعقل أو الفكر!. الحقيقة أن أبعاد المشكلة، التي يفضحها (خطاب أوباما)، تكمن في (الليبراليين العرب) الذين يحسبون أنهم يحملون فكرًا وهم يتمسّحون بثياب (ليبرالية) لا يعرفون دلالاتها، ويتداولون مصطلحات (التنوير) و(المنهج العلمي) و(النهضة) و(الحداثة) وهم لا يفقهون مقوّماتها ومقتضياتها، ولذا كان درس أوباما لهم، وهو الليبرالي حتى النخاع، درسًا قاسيًا، وليتهم يتعلّمون!. عندما يقول أوباما، صاحب (الفكر الليبرالي) نشأةً وانتماءً وثقافةً، إنه ينبغي أن: (يتمّ التعبير عن مبدأ إرادة الشعب في كل دولة وفقًا لتقاليد شعبها)، ويقول: (إن أمريكا لا تفترض أنها تعلم ما هو أفضل شيء بالنسبة للجميع)؛ فإنه يرفع الغطاء عن ذلك الفكر الضحل الذي يتدافع به (الليبراليون العرب) على الساحة مُستفزّين مجتمعاتهم، ومُعلنين عدم التزامهم بتقاليدها، ومُصرّين على فرض ما استوردوه من فكر الغرب، وهم بذلك يُبرزون أحد أبعاد أزمتهم الثقافية في سطحية التعاطي مع الأفكار، وانعدام القدرة أو فقدان الرغبة في التمحيص الجاد، والغوص الماهر في أبعاد القضايا الثقافية والفكرية وتداعياتها. أما عندما يقول أوباما إن: (تناقضات مظاهر العولمة تُحدث في المجتمعات اختلالات وتغييرات كبيرة، وتأتي مشاعر الخوف في جميع البلدان حتى في بلدي، مع هذه التغيرات، وهذا الخوف من أن تؤدي الحداثة إلى فقدان السيطرة على هوياتنا وهي الأشياء التي نعتزّ بها في مجتمعاتنا، وفي أسرنا، وفي تقاليدنا، وفي عقيدتنا)، فإنه بذلك يضع علامات استفهام كبرى أمام طروحات (الليبراليين العرب) حيث يبدو أنهم يعيشون خارج عالمهم العولمي في (عالم افتراضي) يصنعون فيه ما يشاؤون دون اعتبار للهوية التي أكّد عليها الليبرالي أوباما، ودون حساب للاعتزاز بالتقاليد والعقيدة والثوابت التي أدركها الأمريكي أوباما، وليتهم يعقلون!. أما عندما يقول أوباما، وهو المثقف الليبرالي بامتياز، إن: (التسامح تقليد عريق يفخر به الإسلام، فنُشاهد هذا التسامح في تاريخ الأندلس وقرطبة وخلال محاكم التفتيش)؛ فإنه يؤكّد حقيقة تاريخية لا يُمكن إنكارها، ولكن (الليبراليون العرب) تجاهلوها وهم يستوردون مصطلح (التسامح) من أتون صراعات الغرب بتاريخه المكتظّ بالمشكلات العميقة والحروب الدينية والهمجية البربرية؛ وهكذا يضع هذا الخطاب (الليبراليين العرب) أمام مأزق مستفحل؛ فإما أن دعاواهم ومصطلحاتهم تحمل قيمًا تنخرط بطبيعتها في إطار (التشريع الإسلامي)، وبهذا ينبغي أن يكون الإسلام هو (المرجعية الأساس)، وإما أنها تحمل دلالات تشذّ عن ذلك التشريع، وبالتالي تُصبح خارج دائرة الحوار في المجتمعات الإسلامية. أما الضربة القاضية، كضربته لتلك الذبابة التي أزعجته في البيت الأبيض، فهي قوله: (إننا ببساطة لا نستطيع التستّر على معاداة أيّ دين من خلال التظاهر بالليبرالية)؛ وهو بذلك يُعيد (الليبراليين العرب) مرّةً أخرى إلى المربّع الأول، ويضع علامة الاستفهام الكبرى، وليتهم يفقهون!.