من يتابع حالة 'الهوس' السائدة حالياً في الأوساط السياسية والاعلامية الغربية، تجاه الأحداث الدائرة حالياً في ايران، لا يمكن ان يصدق ان 'التعاطف' مع الاصلاحيين وضحايا العصا الامنية الغليظة الذين سقطوا دفاعاً عن حقهم المشروع في الاصلاح، هو المحرك الفعلي لهذا الهوس، وانما اجندات اخرى تستهدف ايران، تتصدرها خطة مدروسة بعناية لتغيير النظام من أساسه، لخطورة تغييره بمشاريع التدخل العسكري المكلفة جداً. نحن امام ثلاثة تيارات رئيسية تتصارع حالياً داخل اروقة الأزمة الايرانية، ولها في الوقت نفسه امتدادات خارجها نرى بعض ارهاصاتها في عواصم عالمية غربية: ' الاول: محافظ اسلامي تقليدي يريد ابقاء الاوضاع الراهنة على حالها دون اي تغيير، لأنه يدرك ان البلاد مستهدفة من الغرب بسبب طموحاتها النووية، ورغبتها في بناء قوة اقليمية عظمى تستند الى قاعدة عسكرية راسخة تهدف الى تهديد الهيمنة الغربية، والامريكية خصوصاً، على منابع النفط. ' الثاني: تيار اصلاحي، ينبثق من رحم النظام، ويريد اصلاحه، من اجل استمراره، اي النظام، بشكل اكثر قوة، بعد ان ترهّل، وبدأ يفقد جزءاً لا بأس به من التأييد الشعبي بشكل متسارع، وهذا التيار لا يختلف عن الاول في حق ايران في امتلاك الخيار النووي، ولكنه لا يريد الاقدام على خطوات 'استفزازية' للغرب يمكن ان تعرقل هذا الطموح المشروع. ' الثالث: تيار انتهازي يجد دعماً قوياً من الغرب، ويمثل بقايا نظام حكم الشاه، يريد خطف 'الانتفاضة الاصلاحية' هذه، وتوظيفها في خدمة تطلعاته الابدية لتقويض النظام من الداخل، ويجد في المظاهرات الصاخبة الاخيرة احتجاجاً على 'تزوير' الانتخابات فرصة ذهبية لتحقيق اهدافه هذه، ولذلك يبالغ في تضخيمها بشكل لافت. ولوحظ خروج رموز هذا التيار من جحورها، ونفض الغبار عنها، والدفع بها الى واجهات الاعلام الغربي والعربي طوال الايام الماضية. لا بد من الاعتراف، ومن قبل النظام الايراني خاصة، بحدوث اخطاء اعطت الذرائع لمعارضيه في التيارين الاول والثاني رغم التناقض في اهدافهما، للنزول الى الشارع للاحتجاج الغاضب، الذي تابعنا بعض فصوله عبر شاشات التلفزة، مثل انحياز المرشد الاعلى السيد علي خامنئي للسيد محمود احمدي نجاد قبيل الانتخابات الرئاسية وبشكل علني، او تهجم الاخير بطريقة استفزازية على بعض الشخصيات المؤسسة في النظام، مثل السيد هاشمي رفسنجاني الذي هُزم امامه في الانتخابات الرئاسية السابقة. ولكن هذا لا يعني تعمق الشرخ بالصورة التي نراها حالياً، وبما يؤدي الى حالة الاستقطاب البشعة الراهنة، وزعزعة استقرار النظام الذي ينضوي معظم هؤلاء 'المتناطحين' في التيارين الاول والثاني تحت مظلته، مثلما يجمع معظم المراقبين المحايدين. ' ' ' الاعلام الغربي في معظمه، لم يكن بريئاً من تهمة الانحياز الى الاصلاحيين ضد المحافظين، ليس حباً فيهم، وانما كرهاً وبغضاً للطرف الثاني، ونحن الذين نعيش في الغرب لعقود، نعرف كيف يدار هذا الاعلام، ويوجَّه، من قبل اصابع خفية. فقبل ثلاثة ايام فقط، كشفت صحيفة بريطانية عن وثيقة رسمية تبين كيف اتفق الرئيس الامريكي جورج بوش ونظيره البريطاني توني بلير على موعد الحرب على العراق، بعد تيقنهما من عدم وجود اسلحة دمار شامل في حوزة نظامه، وحددا قائمة بحوالى 1500 هدف للقصف الجوي التدميري في الدقائق الاولى للهجوم، وبعد ذلك سربا اخباراً للصحافة عن امكانية تجنب الحرب اذا تعاون الرئيس العراقي صدام حسين مع المفتشين الدوليين، ودمر اسلحة الدمال الشامل التي في حوزته بطرق سلمية. عملية 'الشيطنة' نفسها مورست ضد نظام الرئيس روبرت موغابي في زيمبابوي، ولعب الاعلام الغربي دوراً كبيراً فيها بسبب تأميمه، اي موغابي، لمزارع البيض في بلاده وتوزيعها على المزارعين الفقراء، وبالطريقة نفسها جرى توظيف الانتخابات، واتهامات بتزويرها، كذريعة لفرض حصار تجويعي على النظام وكل شعب زيمبابوي، ووقف الغرب الحضاري يتفرج على وباء الكوليرا وهو يفتك بأرواح الآلاف دون ان يتحرك ضميره ويرفع الحصار او يقدم المساعدات الطبية اللازمة. ومن المفارقة ان غوردن براون رئيس وزراء بريطانيا الذي لعب الدور الأكبر في التحريض ضد موغابي، استقبل بالأمس رئيس وزراء زيمبابوي وزعيم المعارضة بعد ان تصالح الاخير مع رئيسه، وقبل تسوية بتقاسم السلطة، وقدم، اي براون، قرضاً متواضعاً لزيمبابوي، وتبخرت الحملات الاعلامية التحريضية ضد 'الديكتاتور' موغابي. ' ' ' الاعلام الغربي لا ينشر المشاهد الدموية ولا جثث الموتى على صدر صفحاته الاولى، ولا في نشراته التلفزيونية لأسباب اخلاقية، والتزاماً بميثاق شرف اعلامي، ولكنه في معظمه كسر هذا التقليد فيما يتعلق بصورة الفتاة ندى التي سقطت 'شهيدة' برصاص الشرطة الايرانية، واصبحت بمثابة 'جان دارك' الايرانية، او 'قميص عثمان' لاعداء النظام. لا نستطيع ان نجزم بأن الانتخابات كانت نزيهة، ولا يمكن ان نؤكد ايضاً بأنها تعرضت للتزوير، واعتراف مجلس صيانة الدستور بحدوث تجاوزات، واستعداده لاعادة فحص البطاقات الانتخابية في عشرة في المئة من الدوائر، ربما يكون حلاً اذا ما تم اختيار هذه الدوائر من قبل اقطاب الاصلاحيين، وجرت عملية الفحص في وجود مراقبين دوليين. ايران مستهدفة دولياً واقليمياً، واقدام النظام على منع المظاهرات السلمية الطابع، والتضييق على الصحافيين ورجال الاعلام، واطلاق النار على المتظاهرين ربما يعطي نتائج عكسية تماماً، ويساعد التيار الثالث الذي يريد تدمير البلاد، وتحويلها الى دولة فاشلة تمزقها الصراعات مثل جارتيها في الشرق افغانستان والغرب العراق. ' ' ' الحركة الاصلاحية الايرانية حركة اصيلة جاءت من منطلق الحرص على البلاد وسد بعض الثقوب في تجربتها، ورجالاتها على درجة عالية من الوطنية، ومطالبها مشروعة في معظمها، ولذلك غير مسموح لها ان تنجح، لأنها لا تقل خطراً على الغرب من نظيرتها المحافظة، ان لم تكن اكثر ولهذا تعرضت للخطف والحرف عن اهدافها الحقيقية. التجربة الديمقراطية الايرانية، رغم المآخذ الكثيرة عليها، تطورت بصورة لم يتوقعها الكثيرون، فالمناظرات التي جرت بين المتنافسين على شاشات التلفزة لم يحدث لها مثيل الا في الولاياتالمتحدة قائدة 'العالم الحر'، والاتهامات التي وجهت الى رئيس الجمهورية بالكذب والفساد امام سبعين مليون ايراني هي اتهامات غير مسبوقة، لم نشاهد مثلها حتى في السويد او سويسرا. هذه التجربة الديمقراطية نبتت في محيط اقليمي غارق في الديكتاتورية والفساد، ولهذا يجب ان تتعرض للاجهاض وبوسائل ديمقراطية ايضاً مثلما نرى حالياً بأعيننا في شوارع طهران. يصعب علينا ان نتكهن بالمستقبل، او نصدر تنبؤات قاطعة، ولكن ما يمكن استشفافه من بعيد، هو ان ايام ايران المقبلة قد تكون دموية، فهذه الأزمة اضعفت النظام لا شك، وخلقت طابوراً خامساً في حديقته الخلفية، في وقت صعب يقرع فيه الغرب طبول الحرب ضده، فإذا خرج النظام منها سليماً، ولكن مثخناً بالجراح، فقد لا يجد الوقت لالتقاط انفاسه، ومداواة جراحه، فهناك من يتربص به ويستعد للانقاض عليه، مثلما انقض على جاره العراقي في الامس القريب.