يملك المجرمون مهما انحدرت مستوياتهم، أخلاقياتهم الخاصة، و حتى على امتداد التاريخ القديم و الحديث لا بد أن تجد وقفة التقدير و الاحترام للقتيل بعد موته مهما كانت درجة العداوة معه و مهما بلغت ضراوة المعركة التي انتهت بقتله. لكن ما نراه و نشاهده في هذا العصر و في (مملكة الإنسانية) للأسف الشديد يفوق كل ما كان يفعله قتلة العصر المغولي و القرون الوسطى الأوروبية، و من يفعلون ذلك يفعلونة بدم بارد جداً، و في أناقة بالغة و عبارات منمقة تماماً كالسم المدسوس في العسل، و الخلاصة امتهان كرامة الميت و تحميلة وزر موته، ذلك بالضبط ما حصل مع صديقي الدكتور طارق الجهني رحمة الله، فلم يكتف طاقم المستشفى المجرم بجريمته الشنعاء و التي حرم فيها أسرة سعيدة من ربها الحنون و يتم طفلتين لن تستطيعا التمتع بنطق كلمة "بابا" بعد اليوم و حول زوجة مطمئنة محبة لزوجها إلى أرملة تحمل هم سفينة الحياة التي أصبحت بلا قائد. الجريمة التي حرمتنا و حرمت المجتمع من كتلة السعادة و البهجة المتألقة على الدوام، من الابتسامة الطفولية الودودة المستبشرة بالغد، والقلب الطيب الذي لا يحتمل أن يقول "لا" لأي طلب و الذي يتقبل النقد و الإطراء بذات الرحابة و السماحة، الطاقة الصافية من حب العمل و الإنجاز و التفاؤل بالغد و الإيمان بقدرات الآخرين و الرغبة في جعل الجميع سعداء، الجميع بدون استثناء مهما كان منصبهم و مهما على أو دنا مركزهم في سلم الحياة، تلك الأصابع المجرمة لم تكتف بالكارثة التي أحدثتها فتتوارى في خجل حتى يعيش أهل المتوفي لحظات حزنهم النبيلة في هدوء بل تجرأوا بكل وقاحة في الصعود على المنبر و طارق لمّا يدفن بعد و حرارة أنفاسه لم تغب عن أركان حجرته، صعدوا بكل صفاقة لتلويث ما تبقى من الذكريات الأليمة، و للرقص على جراح المثكولين في وفاة حبيبهم. فالمرحوم كان "غلطان" لأنه جاء في فترة الإجازة و المرحوم كان "غلطان" لأنه تردد مدة عامين قبل إجراء العملية و المرحوم كان "غلطان" لأنه قرر إجراء العملية وقت المطر و المرحوم كان "غلطان" لأنه دخل بمعرفة رئيس قسم الجراحة و ليس بمعرفة مدير المستشفى الذي كان خارج البلاد حينها (تأمل) و المرحوم كان "غلطان" لأنه أخبرهم أنه سليم و لم يخبرهم بمرض الربو المزعوم، و كأنه ذاهب للحصول على معونة شتاء و ليس لإجراء عملية جراحية أما المستشفى الذي قتل المرحوم، و الطبيبة التي تعمل بدون ترخيص، و بدون تصنيف، و غياب أي اجراء طوارئ أو بروتكول إنقاذ و إهمال المريض حتى وفاتة دماغياً بدون استدعاء أي أحد فكل ذلك أخطاء تحدث، ومن لا يعمل لا يخطئ. بالله عليكم عن أي مملكة إنسانية تتحدثون و الفساد قد نهش في لحمنا ودمنا إلى هذا الحد؟ عن أي نظام و أي خدمة صحية؟ و أي احتيال نمارسة على بعضنا كي نستطيع أن ننام دون رعب؟ ما حدث لطارق له دلالات مرعبة كبيرة لا يمكن تجاهلها فطارق رحمة الله طبيب و استشاري و من صفوة الأطباء في البلد، و لا بد أن قراره إجراء العملية في هذا المكان (الذي لا أجرؤ على تسميته مستشفى) يعني أنه وجد أنه الأفضل في جدة أو من ضمن أفضل الأماكن التي يمكن أن تقدم رعاية صحية (باهظة الثمن) لمن في مثل علمه و مركزه، كون المستشفى يعلم أن طبيباً في مثل علم و مركز طارق يدخل لإجراء عملية جراحية و من ثم يعامله بهذا الإهمال الشديد و يصدر طبيبة غير مرخصة و غير موثوقة لإجراء التخدير يدل على مدى الحضيض الذي وصلت إليه المستشفى في احترام البشر كبشر فضلا عن معاملتهم كزبائن على الأقل يدفعون مقابل موتهم!. إنني أحاول فقط أن أتخيل مصير الألآف من المواطنين المساكين الذين يقعون تحت رحمة هذه المستشفيات التي تتوحش كل هذا التوحش في معاملتهم، ولا أكاد أجرؤ على تخيل منظر مئات الموتى الذين يقضون صامتين في غرف العمليات تحت رحمة الاستهتار و التسيب في القطاع الصحي، دون أن يجرؤ أحد من ذويهم على الشكوى لقله الحيلة و إيمانهم بالقضاء و القدر. كم ضحية مثل طارق رحلت في صمت؟ وكم و كم وكم من العجزة و المشوهين و الراقدين في غيبوبة عالجهم أناس يتبعون نفس النظام الذي قتل طارق؟ الصورة مرعبة بالفعل، مرعبة أكثر من قدرتي على التخيل!. نداء لوزير الصحة الدكتور الربيعة الذي أمر بالتحقيق في الواقعة ثم أمر بإغلاق غرف العمليات في المستشفى، أرجوك يا معالي الوزير لا تدع موظفيك و جهازك الإعلامي يتعاملون مع الموضوع ب(غشامتهم) المعتادة، لا نريد تصعيداً إعلامياً و لا تصريحات كبيرة بلا معنى من مسؤولي الوزارة، و تحويل الواقعة إلى "مولد" لا يستفيد منه أحد. فضلا أسكت الأبواق الإعلامية التي بدأت تددن حول الموضوع و أولها تلك الوقحة المدافعة عن إدارة المستشفى، و دع أهل الميت يداوون جراحهم في سلام، ثم دع لجنة التحقيق تفعل ما تفعلة في الأحوال العادية، دع عربتها القديمة و حصانها الأعرج يصل على مهل فلا تجره كي لا يقع. ما نريده منك بالفعل أن تنظر إلى الصورة الأشمل فما حدث لطارق رغم كل بشاعته ما هو إلا دمّل صغير انفتح في جسد الخدمات الصحية المصاب بالسرطان، ما نريده منك أن تلتفت إلى تراكمات النظام الصحي الفاسد الذي جر علينا كل هذه المصائب، إلى الترهل و البيروقراطية و محاربة الكوادر المؤهلة، و تفريغ البلد من أي مواطن صالح يعمل في القطاع الخاص بحجج غبية و واهية و ترك الحبل على الغارب لتجار الخشب و الأسمنت و سائقي الأجرة ليتلاعبوا في أرواحنا و يتاجروا فيها بلا ثمن. ألم يكن من الأولى بمديريات الشؤون الصحية ترسيخ مبدأ المراقبة و المحاسبة للقطاع الخاص قبل أن يصل الاستهتار إلى هذا الحد بدلا من الانشغال في مطاردة الأطباء المؤهلين بحجة أنهم موظفون حكوميون!، أرجوك التفت لإصلاح النظام و استغرق فيه كل وقت ولايتك، و حتى لو لم تستطع تغييرة كله، لو استطعت ان تنجز 30 في المئة فقط من المهمة، ستكون قد أنقذت الألوف من أمثال طارق و حفظت أرواحهم و ستنجو من وزر الدماء التي أريقت و الأرواح التي أزهقت و التي تضج الآن غضبى في السماء لأن تاجراً رخيصاً لم يكتف بأكلها حية و تمادى ليتاجر في رحيلها. (الدكتور فراس عالم)