يمكن أن يطلق على التغييرات الوزارية والهيكلية الحكومية الكبيرة التي أمر بها خادم الحرمين الشريفين السبت 14 فبراير 2009، بأنها إعادة ترتيب للهيكل الفكري وتطوير للمرجعية الدينية في السعودية، التي أتت كردة فعل مدروسة ومحسوبة للاحتقان المجتمعي والإداري الذي أصاب جهات تنظيمية وتشريعية وخدمية بعينها. ووضعت المرجعيات الدينية في المملكة العربية السعودية تحت مجهر النقد الدولي، استناداً إلى احتفاظها بنظام قضائي مقنن بالأهلية الشخصية للقاضي، كما انتقدت السعودية أكثر من مرة لحصرها وظائف القضاء والإفتاء على أتباع ذوي مواصفات محددة، أهمها مكان الولادة والعائلة التي يتبع لها القاضي حسب رأي المنتقدين. وطالت التغييرات الجذرية جناحين من أجنحة الدولة الرئيسية، وهما: جناح المرجعية الدينية، وجناح الخدمات الأساسية، وشددت الأوامر الملكية على إعفاء عدد من الوزراء ومسؤولي الرأي العام السعودي بمختلف أطيافه، وبين متسائل عن سبب التغيير، وآخر ينتظره ويتوقعه، كان هناك ارتياح عام بأن النقلات الهيكلية المهمة التي أصدرها خادم الحرمين الشريفين أتت في وقتها تماماً. وكانت أبرز التغييرات تلك التي نالت من المرجعية الدينية متمثلة في 5 جهات تشريعية وتنظيمية، الأولى (هيئة كبار العلماء) التي أعيد تكوينها وضمت أتباعا للمذاهب السنيّة الأربعة للمرة الأولى، كما أقرّ أيضاً للمرة الأولى إعادة تكوين الهيئة كل 4 سنوات، إلاّ أن المفتي العام الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ احتفظ بمنصبه على رأس كبار العلماء. أمّا الثانية ف (مجلس القضاء الأعلى) الذي أعيد توليفه وعين رئيس مجلس الشورى الدكتور صالح بن حميد رئيساً له، في حين جاء التغيير في القطاع الرئيسي الثالث بإعفاء الدكتور عبد الله بن محمد بن إبراهيم آل الشيخ من كرسي وزارة العدل وتعيينه رئيساً لمجلس الشورى، وتعيين الدكتور محمد بن عبد الكريم بن عبد العزيز العيسى وزيراً للعدل. ويضاف للتغييرات التي شملت القطاعات الدينية، التغيير الأكثر أهمية في الجهات التنفيذية والمتعلق بإعفاء الرئيس العام لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إبراهيم بن عبد الله الغيث، وتعيين رئيس جديد وهو عبد العزيز بن حميّن الحميّن، وذلك بعد هجوم غير مسبوق في وسائل الإعلام والإنترنت على قطاع هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وربما كان قطاع الرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكثر الأجهزة الدينية جدلاً، حيث أدى قيام الهيئة بمهام عديدة تتداخل مع صلاحيات وحدود قطاعات أخرى كالشرطة والمباحث، إلى انقسام حاد بين مؤيد ومعارض لوجوده، وبين داع إلى حلّ الهيئة ومتمسك بها، وصعدت الآراء التي تؤكد أهمية وجود الجهاز مع تحديد صلاحياته وآلياته التنفيذية. كما شملت التغييرات مناصب مهمة في ديوان المظالم، وذلك بتعيين إبراهيم بن شايع بن عبد الله الحقيل رئيساً لديوان المظالم بمرتبة وزير، بعد إعفاء محمد عبد الله بن محمد الأمين الشنقيطي رئيس ديوان المظالم من منصبه بناءً على طلبه، كما عين علي بن عبد الرحمن بن عبد العزيز الحماد نائباً لرئيس ديوان المظالم. وتسيطر التوجهات الدينية فكرا وتشريعاً وتنظيماً وتنفيذاً على حياة السعوديين، الأمر الذي أدى إلى حدوث صدام اجتماعي تمثل في المناداة الشعبية عبر وسائل الإعلام والإنترنت بإعادة النظر في الأنظمة القضائية ونظام هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على خلفية تخبطات وتجاوزات مرتبطة بتطورات الأحداث الراهنة محلياً وعربياً وعالمياً. وتحرك النقاش مؤخراً في الأوساط الفكرية السعودية حول مواءمة القضاء السعودي للواقع، بعد أن ثارت قضايا جزئية على خلفيات أحكام قضائية تتعلق بكفاءة النسب بين الزوجين، وخضوع الأحكام الشرعية لتقدير وترجيح القضاة مع غياب الأسس الفقهية للحكم، ومدونات الأحكام، وغيرها من الملاحظات التي أدت إلى التراشق علنا بين أطراف الفريقين على صفحات الصحف. وسيعتاد السعوديون بعد اليوم على سماع مسمى قطاعات جديدة عليهم، حيث عين عبد الرحمن بن عبد العزيز الكلية رئيساً للمحكمة العليا، كما عين محمد بن فهد بن سعد الدوسري رئيساً للمحكمة الإدارية العُليا بمرتبة وزير. ولعل تغييرات القطاعات الخدماتيّة الثلاثة وهي وزارة الصحة، ووزارة التربية والتعليم، ووزارة الإعلام، تسحب بساط الأضواء من التغييرات التي طالت القطاعات الدينية، إذ تمس خدمات القطاعات كل السكان من مواطنين ومقيمين. ومع ازدياد ظاهرة الشكاوى من أداء وزارة الصحة، والأخطاء الطبية، والإهمال في المستشفيات، وغياب التجهيزات والأدوية، إضافة إلى ما يعانيه قطاع الصحة من ترهل وفساد إداري، كان آخرها تشكيل لجنة للتحقيق في اختلاس مئات الملايين من الريالات من مخصصات حملة مكافحة حمى الضنك في جدة، حيث ترادفت المعطيات لتطيح بوزير الصحة الدكتور حمد المانع الذي استبق قرار إعفائه بالسفر إلى خارج البلاد بدعوى العلاج! وكان البديل رجل عمليات فصل التوائم السيامية الأوّل في العالم والوجه الطبي الشهير الدكتور عبد الله الربيعة المدير التنفيذي الأسبق للشؤون الصحية في الحرس الوطني، ويتوقع أن يشكل الوزير الربيعة إضافة نوعية ومنهجية لأداء وزارة الصحة, وذلك على خلفية ما أحدثه من تطور لافت في منظومة الشؤون الصحية في الحرس الوطني إبّان إدارته لها. ولم يكن حظ وزارة التربية والتعليم من النقد بأخف وطئاً من جارتها وزارة الصحة، فطغت على الصحف أخيراً شكاوى المعلمين والمعلمات من أخطاء الوزارة، مع ما أعلنه المعلمون والمعلمات من ظلم واقع عليهم بسبب الارتباك الهيكلي والمالي للوزارة، كما أدى تردي أوضاع المباني المدرسية، والعملية التعليمية، والأخطاء التي صاحبت تطوير المناهج، إلى أن تنوء الوزارة بملف واسع من التخبط الذي كان لا بد أن يتنحى بسببه قياديون كبار في الوزارة، أتى على رأسهم وزير التربية والتعليم الدكتور عبد الله العبيد الذي أعفي من منصبه ليتسلّمه الأمير فيصل بن عبد الله بن محمد آل سعود الذي كان مساعداً لرئيس الاستخبارات العامة. كما شملت التغييرات التي طالت وزارة التربية والتعليم كلاً من نائبي الوزير لشؤون البنين والبنات وهما الدكتور خالد بن عبد الله بن محمد والدكتور سعد بن محمد المليص، وشهدت وزارة التربية والتعليم تعيين أول امرأة في منصب نائب وزير، وهي الدكتورة نورة بنت عبد الله بن مساعد الفايز, التي عينت نائباً لوزير التربية والتعليم لشؤون البنات بالمرتبة الممتازة. أمّا التغيير الوزاري الذي سيفتح باباً واسعاً للنقاش، فهو تعيين سفير السعودية في بيروت الدكتور عبد العزيز بن محيي الدين خوجة وزيراً للإعلام بدلا من إياد بن أمين مدني الذي أعفي من منصبه بعد هجوم حاد للتيار الديني في المملكة على ما أسموه دعوات التغريب حملها الوزير مدني إبان ترؤسه لوزارة الإعلام، وكان إسلاميون شنوا حملات على الإنترنت تدعو لعزل وزير الثقافة والإعلام احتجاجاً على الانفتاح الذي شهدته القنوات السعودية المرئية، وذلك ببعد السماح للمذيعات بالظهور في نشرات الأخبار، والحوارات التلفزيونية, واستضافة النساء في برامج ذات مشاهدة جماهيرية عالية، الأمر الذي عده متشددون غزوا فكرياً وأخلاقياً تخريباً للمجتمع. وإن كان كم التغييرات الهيكلية والوزارية السعودية كبيراً، فيما اعتبره متابعون تأسيساً للدولة السعودية الرابعة، فإن التحدي الحقيقي للهيكلة الجديدة والمكلّفون الجدد، يتمثل في مواجهة وعي المواطن السعودي الذي يزداد باطراد، والانفتاح الإعلامي الذي رفع من مستوى النقاش حول المسؤولية والشفافية في المجتمع. (إبراهيم أحمد)