لم تكن عودة حوالي نصف مليون طالب فلسطيني في قطاع غزة إلى مقاعدهم الدراسية عودة "طبيعية" ، فعقولهم الصغيرة تحمل قصصاً مأساوية لن تمحوها السنين من ذاكرة الأطفال الحديدية التي لم تذيبها المتفجرات التي انهالت على رؤوسهم طوال ثلاثة وعشرين يوما وهي أيام الحرب التي هزت أركان غزة. ترافقت عودة (450) ألف طالب مع اكبر حملة علاج نفسي يشهدها قطاع غزة لأول مرة في تاريخه في محاولة لتقديم علاج نفسي لمئات الآلاف من الطلبة وذويهم مما خلفته الصور الصادمة في وجدانهم. ألاف القصص الإنسانية تنضح بها المدارس التي واجهت عملية قصف نفسي وعقلي لطلبتها ومدرسيها على السواء؛ فمن قصص استشهاد الطلبة ومقاعدهم الخالية، إلى قصص من فقد من الطلبة كل عائلاته وبقي وحيداً، إلى قصص المدرسين اللذين فقدوا عائلاتهم، وبيوتهم . مقاعد خالية الطالبة هبة ناصر النجار ، لم تلب دعوة التعليم للالتحاق بمقعدها الدراسي في الفصل الثامن بمدرسة أبو طعمية بخزاعة جنوب شرق قطاع غزة صباح السبت والأحد "لم تصحو من آثار صدمة استشهاد أمها أمام عينيها برصاص قوات الاحتلال أثناء اجتياح البلدة في الحادث عشر من الشهر الجاري . حاول خالها والعديد من ذويها مساعدة والدها لتهيئتها للتوجه إلى مدرستها ، يقول والدها ناصر النجار" منذ استشهاد أمها ونحن نخفف عنها بالكلام ، ونحاول أن نشد من عزيمتها " لكن كما ترى كلما حاولنا تدخل في جولة بكاء حارقة . ويقول:" أعددناها من ساعات أمس للتوجه إلى المدرسة لكن للأسف هبة تذكرت صباحا والدتها وأخذت تبكي " فاضطرت إلى إرسالها إلى بيت خالها لا إلى المدرسة ، فماذا أفعل طفلة تقتل أمها أمامها . بينما ترك مقعد ابنة عمها آلاء خالد النجار في الفصل العاشر في مدرسة شهداء خزاعة شاغراً ، ولم تشغله أي من زميلاتها اللواتي بقين خارج الفصل المهشم زجاج نوافذه ، والمتصدعة جدرانه جراء القصف المدفعي والصاروخي الذي تعرضت له المدرسة. يذكر أن عشرات الآلاف من الطلاب عادوا إلى مقاعدهم بشكل طبيعي صباح السبت جراء تدمير قوات الاحتلال (35) مدرسة تدميراً كاملاً من بين (586) مدرسة تتبع الحكومة والاونروا، وإلحاق أضرار مادية فادحة بعشرات المدارس ، لم يعد بإمكان الطلبة الالتحاق بها ، بينما أصرت مدرسة دار الفضيلة للأيتام شمال مدينة رفح على استئناف الدراسة في خيم بعد تدمير فصولها في القصف الجوي الذي طالها بشكل مباشر. مواقف صادمة ونالت مدارس شمال قطاع غزة القسط الأكبر من التدمير ، فقد بلغ عدد المدارس المدمرة بشكل نهائي فيها إلى (24 ) مدرسة لم يستصلح منها سوى عشرة فقط ما أدى إلى ترحيل طلابها إلى مدارس أخرى لتعمل بنظام الفترتين والثلاث. وتقر المرشدة النفسية لمدرسة أبو طعمية في خزاعة جنوب القطاع "هيام" بصعوبة التعامل مع المواقف النفسية الصادمة للطالبات " المدرسة بحاجة إلى طاقم كبير من الأخصائيين للعمل فترة طويلة كي نخفف بعض الصدمات عند الطالبات". لم تجهز أم واصف السلاق طفلتها بيسان ، لتلتحق بفصلها التاسع أسوة بزميلاتها بمدرسة تل الهوى غرب مدينة غزة ، فهي في مستشفى العريش بمصر تتلقى العلاج من جراحها الخطرة التي أصيبت بها عندما حاولنا الهرب من قصف جوي لمجلس الوزراء في الحي ، تقول الوالدة المكلومة. بينما يعجز المعلم عيسى البطران (42 عاما) المدرس في مدرسة مخيم البريج التابعة للاونروا عن الالتحاق بمدرسته ليقف إلى جانب طلبته بعدما فقد زوجته وأطفاله الخمسة في قصف صاروخي استهدف منزله ، ولم ينجو من الموت معه سوى عبد الهادي ابن العام الواحد فقط. يقف البطران اليوم عاجزاً عن الحديث من هول الصدمة ، ويأخذ العديد من جلسات العلاج النفسي إلى جانب العلاج الطبي من جراحه التي أصيب بها في القصف الذي غير مجرى حياته . كارثة نفسية ويستبعد الدكتور فضل أبو هين أستاذ علم النفس في جامعة الأقصى بغزة ، ورئيس مركز التدريب المجتمعي وإدارة الأزمات المشهور بتقديم خدماته النفسية في القطاع أن تتمكن الطواقم النفسية من تغيير الأنماط النفسية في أشهر معدودة " الأمر يحتاج إلى سنوات" خصوصاً مع حوالي أربعين ألف طالب تعرضوا للصدامات تعرضاً مباشراً. ويقول أبوهين " من الاستحالة أن يتكيف من دمر بيته واستشهد أهله أو احدهم أمامه" هناك نمط من الحياة تغير كلياً لدى عشرات الآلاف من الأطفال فضلاً عن الأهالي ، فهناك (20) ألف منزل مدمر ، و(1300) شهيد ، و(5400) جريح" ، مضيفا" لا يمكن لأي طفل وطالب ممن له علاقة بهذه الأرقام أن تنتظم حياتهم بسهولة "النمط النفسي يحتاج تعديله إلى سنوات" لأن محو ما علق في الذاكرة من مشاهدات صادمة أثرت في الانطباعات العضوية التي تؤدي إلى تؤثر في النفسيات ليس سهلاً . واضطر مركز أبو هين إلى الاستعانة بأربعين مختصاً نفسياً لينضموا إلى طاقم المركز المكون من (15) مختصاً ، ليواجهوا المئات من الطلبة والأهالي في منطقة عزبة عبد ربة شرق بلدة جباليا ، وحي الزيتون شرق مدينة غزة ، وهو من اكثر الاحياء المدمرة في القطاع . ويكشف أبو هين عن نتائج مهولة لبحث ميداني أجراه مع (950) رب أسرة وأطفالهم في مدارس الاونروا في الأيام الأخيرة من الحرب على غزة فكانت النتائج صادمة ، ف (63%) من الإباء كانوا أكثر عصبية من ذي قبل ، و(92%) عبروا عن الشعور بالخوف من المستقبل ، بينما كانت النتائج عن الأطفال أكثر صدمة ف(88%) من الأطفال أصبحوا أكثر خوفاً اليوم من ذي قبل ، و(92%) يخشون ترك واديهم ، و(45%) تنتابهم أحلام مزعجة ، و(31%) يخافون الخروج نهاراً ، و(95%) يخافون الخروج ليلاً ، و(78%) يتوقعون الموت في أي لحظة ، و(72%) يخافون من صوت الطائرات. هذه الدراسة تؤكد درجة تأثر الأطفال الكبيرة جراء الحرب ، فهم بحاجة إلى إسعافات نفسية أولية سريعة ، لنتفرغ بعد ذلك لحوالي (40) ألف طالب مدرسي بحاجة إلى جلسات علاج نفسي مكثفة وطويلة الأمد لنخفف بعض الشيء.