يولد الانسان مرة واحدة، ويموت مرة واحدة، حقيقة مطلقة لا خروج عنها الا في أكاذيب المجاز حين يحلو لأحدهم أن يقول "يولد من جديد، أو ميلاد جديد" كتعبير عن اختلاف المرحلة..، وما بين الميلاد والموت حياة تتشكل في المساحة المقدرة لها ما بين خروج الى الوجود من لا وجود وبين رحيل عن الوجود الى عدم زاخر بشروط من العقاب والجزاء والثواب والعذاب ليست كشروط الحياة في الدنيا.. حياة الانسان واقعة لا محالة بين هذين القوسين المتقابلين، (ميلاد وموت) لكليهما ذات القوة والأهمية، فما لم يكن هناك موت ما كانت هناك حياة.. اثنانية بنى عليها الخالق عز وجل قاعدة خلقه حين وضع الشر في مقابل الخير، والليل والنهار، والنور والظلام، والملائكة والشياطين، والسماء والأرض، والماء والحجر والنار، والصيف والشتاء، والحب والكراهية، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وجعل الخالق الحكيم الضد شاهدا على وجود الضد.. وأعود الى الانسان وقوسي الميلاد والموت.. الميلاد مجردا ليس قيمة ايجابية، كما أن الموت مجردا ليس قيمة سالبة، وتلك أيضا حقيقة أخرى تحتاج الى بعض الافاضة.. علماء النفس والاجتماع يقولون المساحة المقدرة لحياة الانسان تحكمها وتعمل على تشكيلها الظروف والبيئة والعلاقات الاجتماعية والصحة والمرض وغير ذلك، لكن ذلك كله لا يلتفت الى "فطرة" الخالق عز وجل، وإرادته في أن يجعل من بعض الأموات أحياء عند ربهم يرزقون، ومن بعض الأحياء أمواتا قبل الرحيل، هذه ثنائية أخرى لحكمة الخلق.. يذكر التاريخ بقوة أسماء راحلين من ألف سنة أو تزيد، علماء وفقهاء وشراحا ومفسرين وقادة وأدباء ومفكرين، ويذكر بهم الناس للاهتداء بهديهم، هؤلاء وضعوا توقيعا بأسمائهم على وجه الزمن فلا سبيل الى محوه أو طمسه أو اغفاله، ونثروا ضوءا ما زال يتألق ليضيء لنا طريقا للهداية.. انهم ميتون أحياء لأن فعلهم ما يزال جاريا ومؤثرا في حياتنا وكأنه فعل اللحظة، هم جند الله المكلفون –أدركوا أم لم يدركوا– بتغليب الخير على جبروت الشر حتى لا ترجح كفة الشر فتختل الموازين. بالمقابل هناك أحياء يتحركون أمامنا وبيننا، اذا عجزوا عن فعل الخير لجأوا الى الشر لإثبات الذات والوجود فحسب، وعندما نشعر بفعلهم لا يكون لهذا الفعل أدنى أهمية الا بقدر اعلائه للنقيض المقابل..، المفطور على الكذب يعلي لدينا قيمة الصدق، والكاره لنفسه قبل غيره يعلي لدينا قيمة الحب، والخائن يؤكد على وجود الأمانة، والناكر لحق الوطن يعلي لدينا قيمة الولاء والانتماء، للسلب هنا أهمية معادلة لأهمية الايجاب، مع الفارق الجوهري في أن السلب هو سلوك الأحياء الميتين في الدنيا، والآخرة، والايجاب تأكيد على الحياة والوجود حتى وان كان أصحابه من الذين توفاهم الله من زمن طويل. أليس من الحكمة أن يتوقف المرء ليحدد خياراته لمساحة محدودة من الوجود طالت أم قصرت؟ هل ينحاز للأحياء الميتين، أم يهتدي بسيرة الأموات الأحياء، مستعينا بواهب الهداية العظيم؟. ربما كان لهذا الكلام معاودة. ( د.مطلق سعود المطيري - الرياض )