وقف المسؤول الحكومي الفاسد في البلد المضيف يشرح للمسؤول السعودي بعض المنجزات، وأشار إلى برج يرتفع شاهقاً، وقال: لقد استفدت 5 ملايين دولار كعمولة من خلال موقعي في صفقة إنشاء هذا البرج، بعد أشهر زار المسؤول الأجنبي المسؤول الحكومي السعودي الفاسد في السعودية، وبينما المسؤول السعودي يشرح لنظيره بعض المنجزات، قال: لقد استفدت 100 مليون دولار من خلال موقعي في صفقة إنشاء هذا الطريق السريع، تلفت المسؤول الأجنبي يمنة ويسرة لكنه لم ير طريقاً سريعاً سوى الطريق الضيق والمهترئ الذي يسيران عليه، فقال للمسؤول السعودي: ولكني لا أرى طريقاً سريعاً، فردّ المسؤول السعودي وهو يطبطب على بطنه: لذلك كانت فائدتي 100 مليون دولار! قد يكون هذا حدث في السبعينيات أو الثمانينيات الميلادية، أمّا في التسعينيات فهذا ما حدث: شرح المسؤول السعودي للمقاول الأجنبي أبعاد المشروع الذي سيتم الاتفاق عليه، وأهميته وما إلى ذلك، ثم قدّم المسؤول السعودي مذكرة فيها تفاصيل المناقصة للمقاول الأجنبي وقال للمقاول إن عليه أن يطلع على آليات الدخول وشروط المنافسة في المناقصة و .. إلخ. دسّ المقاول الأجنبي الأوراق في حقيبته وابتسم بلؤم، وهو يقول: "آي نو .. آي نو .. فيفتي فيفتي"! في الألفية الجديدة، وفي هذه الأيام استفزع مقاول في الرياض بمقاول من الدمام طالباً منه إرسال أي عدد من العمال على وجه السرعة، وقال إنه حصل على مقاولة بالباطن في مشروع جامعة الأميرة نورة، وأن يومية العامل قد تصل إلى 1000 ريال ولكنه يعجز عن تأمين عمالة، فاعتذر مقاول الدمام لأن عامليه مرتبطون بمشروع، واقترح على مقاول الرياض اقتراحاً آخر، فبما أن يومية العامل في مشروعه ب 1000 ريال فلماذا لا يعمل عنده! حكاية جدة لن تنتهي باجتماع، كما أنها لم تنته بعد أمر الملك فتح تحقيق حول أحداث العام الماضي، حكاية جدة بدأت منذ ما حدث في السبعينيات والثمانينيات وهي مستمرة حتى ينتهي عصر (الباطنيّة السعوديّة). حي الباطنية من أقدم الأحياء في القاهرة، اكتسب هذا الحي سمعته السيئة في مصر من كونه مركزاً لتجارة المخدرات وبيعها العلني، لذلك ترمز الباطنية إلى التنظيم الكائن داخل النظام، وله نظامه العلني في التجاوزات، والكلّ يعلم ولا أحد يدري لماذا لا يتم إيقاف تجاوزه!، قد يكون عُرفاً دارجاً، وقد يكون لكثرة المستفيدين منه، وقد يكون محميّاً حماية حقيقية من الدولة، وقد يكون مستغلاً لئيماً لثغرات في نظام بائس. (الباطنيّة السعوديّة) تختلف عن باطنية القاهرة في شيئين، أولهما: إنها ليست حيّاً، فلا مركز لها، إنّها فكرة فاسدة في رؤوس فاسدة، تتحول إلى سلوك تفوح رائحته النتنة من مكاتب حكومية يقبع على كراسيها آكلو الأموال بالحرام، فيلتقط هذه الرائحة مَن يجيد شمّ النتن، ومَن يبحث عنه، والاختلاف الآخر هو أن باطنية القاهرة تخصصت في المخدرات، بينما باطنيّتنا السعودية تخصصت في (أكل المال العام). بدأت الباطنيّة السعوديّة بشكل مقنن ببعض المسؤولين الفاسدين الذين تسنموا زمام المسؤولية بناء على شخوصهم الاجتماعية، فوجدوا بكلّ بساطة أن الدولة ترصد ميزانيات تمرّ بملياراتها تحت أيديهم ولا يستفيدون منها !، إنّه شيء مؤسف، ولذلك تفتّقت الذهنية الباطنية عن تسهيل ترسية مشاريع على أسماء محددة تمّ ضمُّها إلى تنظيم الباطنية السعودية خصيصاً للقيام بهذا الدور، هذه الأسماء تعرف ما عليها فعله جيّداً، فهناك نسبة ثابتة متفق عليها من قيمة المشروع ل "الهامور" المسؤول الحكومي الفاسد الذي يقف على قمة هرم أيّ عملية باطنية، وبعد ترسية المشروع هناك مبلغ يتسلمه من تمت ترسية المشروع عليه ليتنازل عن المشروع لآخر، والآخر يكون وسيطاً ربّما لشركة مقاولات تقوم بتنفيذ المشروع بالباطن. الشركة - أو الشخص الأخير بمعنى أدقّ - يلمّ له أيّ عمال من الشارع، حتى لو لم يكونوا بإقامة نظامية، حتى لو أنهم لا يجيدون في البناء شيئاً، ويبدأ تنفيذ ما يستطيع تنفيذه بأسوأ المواد وأردأ المواصفات ليثبت جديته للمقاول الأساسي الذي سيتسلّم منه نصيبه من مستحقات العملية الباطنية. هذا الإرث الحكومي الباطني بعد أن بدأ بأشخاص، تحوّل مع السنين والأيام إلى "ظاهرة" حكومية، وأنا أعني بكلمة ظاهرة أنّها حالة شبه عامة في جميع الجهات الحكومية، يخطط لها جيّداً، وتسير بشكل نظامي ومنهجي، فعند تطبيق المعايير المفترضة لترسية المناقصات من حيث الإعلان عنها واستقبال العروض وتقسيمها إلى عروض فنية ومالية والمفاضلة وانتخاب 3 عروض .. إلخ من الإجراءات المطلوبة، نجد أن الباطنيين يطبقون كلّ المعايير، ولكن في النهاية يفوز الشخص الذي يريدونه أن يفوز لتستكمل العملية الباطنية فصولها بعد ذلك. قبل أعوام تفشى مرض حمّى الضنك في جدة، وكانت الطريقة الوحيدة للحد من انتشار المرض هو القضاء على الناقل، وهو نوع معين مميز الشكل من البعوض، وللقضاء عليه كان ينبغي توعية سكان جدة بشكل البعوض للتفريق بينه وبين البعوض العادي ومعرفة مواطنه ومحاصرته، إضافة إلى تجفيف جميع الطفوحات المائية في الشوراع والمنازل ودورات المياه والتي يمكن أن تكون بيئة خصبة لتكاثر هذا النوع من البعوض، وخلصت التوصيات للقضاء على مرض حمّى الضنك بضرورة القيام بحملة توعية مكثفة لجميع السكان إضافة إلى الإجراءات الاحترازية الأخرى. بعد عرض الأمر عليه، أمر خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، بتخصيص مبلغ مليار و90 مليون ريال لحل مشكلات جدة التي عُرضت عليه آنذاك، وتم تخصيص 90 مليون ريال من المبلغ لحملة إعلامية توعوية لسكان جدة تستمر لمدة عام كامل لمحاربة المرض، وبدأت الجهة المعنية في الرياض استقبال عروض شركات الدعاية والإعلان والإعلام، وبهدوء تمت ترسية الحملة على إحدى الشركات الإعلامية الوطنية المملوكة لابن أحد الوزراء بالمبلغ نفسه بالضبط (90 مليون ريال)، ومنه بالباطن إلى شركة لبنانية. بعد 3 أشهر لم تقم الشركة اللبنانية بأي توعية، فسحب المشروع منها وأعطي لشركة أخرى بالباطن، ولكن لم يكن تبقى سوى 50 مليون ريال، وبعد 3 أشهر أخرى لم تقم الشركة الثانية بشيء، فأعطي المشروع لشركة ثالثة بالباطن لم تقم بشيء هي الأخرى سوى أن أخذت نصيبها من الكعكة، في النهاية بقي 13 مليون ريال تم تحويلها للشؤون الصحية في جدة مذيّلة بعبارة: "تصرّفوا" أو فيما معناه! الشؤون الصحية في جدة شمّرت عن ساعديها لتلقّف ال 13 مليون ريال، وطلبت عروضاً إضافية للحملة التوعوية من بعض الشركات الإعلامية، وكان الوقت المتبقي من الحملة قصيراً، ويبدو أن موضوع وفيات "حمّى الضنك" بدأ يخفت بريقه ويتراجع إلى مصاف الأخبار الثانوية والصفحات الداخلية، وبما أن أحداً لم يكن منتبهاً، فقد قررت الشؤون الصحية أن تقوم بحملة التوعية بنفسها!، الذي حدث أن الحملة لم تتم، واختفت ال 13 مليوناً الأخيرة، وما زال مرض حمّى الضنك منتشراً في جدة حتى اليوم. حسناً، في 25 يناير / كانون الثاني 2011 أي قبل 4 أيّام من الآن نشر عضو اسمه "أبو ماجد" إعلاناً في منتدى عقاري شهير، يطلب أبو ماجد مقاولين لترسية مشروعات ضخمة عليهم بالباطن، وحدّدها ب "مشروع طرق بأربعة مليارات، ومشروعي طرق آخرين كل مشروع بملياري ريال"، فالمجموع إذا 8 مليارات ريال لمشاريع طرق، وأضاف أن هناك أيضاً كم مشروع فوق البيعة لمبانٍ سكنية وحكومية وأبراج مياه وصرف صحي. أبو ماجد لم يحدد كم النسب في العملية الباطنية التي أعلنها وكم النسبة التي سيأخذها، فهو لا يرغب في مناقشة هذه التفاصيل أمام العموم، وإنّما تتم بشكل سري، بينما لم يخجل عضو اسمه "أبو فهد" من ذكر كل تفاصيل العملية الباطنية كالتالي: مطلوب مقاول بالباطن لمشروع ردم مليون ومائة ألف متر مكعب ب 7 ريالات للمتر، والمطلوب 600 ألف ريال (هذه للمقاول الأساسي) إضافة إلى نسبة السعي (هذه لأبو فهد) الذي لم ينس وضع رقم جواله. أمّا "وسيط المشاريع" كما سمّى نفسه، فأعلن في منتدى آخر وجود قائمة كبيرة من المشاريع لديه في مدن سعودية مختلفة، أقل مشروع فيها ب 100 مليون، ويطلب مقاولين بالباطن للقيام بها، في حين أن العضو "المعلومات" كتب بأنه مستعد لتأمين مناقصات بالباطن وبشكل مباشر، حيث يتقاضى ما نسبته 8 % من المشروع المباشر و2.5% عن المشروع بالباطن. في الخرج، ومكة المكرّمة، والقنفذة، وجدة، ووادي الدواسر، والأسياح وغيرها من المناطق، في كلّ المشروعات، حتى الفكرية والخيرية والإنسانيّة منها، ستجد أخطبوط شرّ الباطنيّة السعودية في كلّ شبر من الوطن، كلّ ما عليك فعله أن تدخل إلى محرك البحث Google واكتب كلمات "بالباطن، مناقصة، حكومية" وابحر في عالم الباطنية السعودية. بهذا الشكل سنفهم لماذا يتكلّف تنفيذ مقاولة معمارية لمتر مربع واحد 3000 ريال في مشروعات الحكومة، بينما أن أيّ عامل يمكنه إنجاز المتر المربع ذاته ب 300 ريال، فالميزانية رغم أرقامها التي تطير بزحمة الأصفار "لا بركة فيها" ولا تأثير ملموساً لها على أرض الواقع، لأن أعضاء تنظيم الباطنية يلتهمون الجزء الأكبر من كعكتها، بينما يشاهد الجميع المنتج النهائي لأي مشروع وكأنه أقيم لدولة مؤقتة. بهذا الشكل سنفهم سرّ المدارس الحكومية التي تقع على رؤوس أبنائنا وبناتنا، سنفهم سرّ المستشفيات التي تقرّ في الميزانيات وتتبخّر في الواقع، سنفهم سرّ الانهيارات والهبوطات التي تملأ شوارعنا، سنفهم سرّ إهمال نظافة المدن، سنفهم سرّ دهشة الناس وهم يتعجبون من عشرات الملايين التي تصرف على أرصفة وحدائق وتسوير مقابر يمكن أن تنشأ بنفس المواصفات بعشرات الآلاف. بهذا الشكل، وفي جدة تحديداً، سنفهم سرّ مشروع الصرف الصحي الذي أقرّته الحكومة قبل 70 عاماً لمدينة جدة ولم ينفذ!، سنفهم لماذا انهار سد أم الخير الجديد الذي لم يمض أشهر على إنجازه، سنفهم لماذا امتلأ نفق طريق الملك عبد الله بالمياه رغم ما حدث فيه العام الماضي، وسنفهم لماذا فاضت المدينة بمياه المجاري قبل مياه الأمطار. بهذا الشكل سنفهم من هو "علي الأس....." أشهر مقاول "شبح" في تاريخ أمانة جدة، سنعرف بهذا الشكل من يأكل أموال الدولة، من يأكل مالنا العام. ما حدث العام الماضي في جدّة لم تندمل جراحه في النفوس حتّى اللحظة، وزاد ما حدث يوم الأربعاء الماضي الغصّة في حلوق الناس، كان الجميع يتذكر خطاب خادم الحرمين الشريفين التاريخي يوم فاجعة العام الماضي، وبعد عام من التحقيق لم يحدث شيء لأن التحقيق اصطدم بأهرام كبيرة ل "الباطنيّة السعوديّة". وستبقى جدة تنزف، وكلّ مدن الوطن تنزف، تنزف دماء وأرواح شبابها وفتياتها وأطفالها وشيوخها ونسائها وخيراتها ومقدراتها المهدرة، حتّى يأتي عصر نتخلّص فيه من "الباطنيّة السعوديّة". ولكن مَن المسؤول عن نشوء تنظيم "الباطنيّة السعوديّة"؟ مَن الذي يغذّيه؟ ومَن الذي يفرّط في مالنا العام له؟ إنّ الباطنية السعودية، وبلا شكّ، صناعة "الوزارة الديناصور"، التي لا تسمع لها حسّاً، وزارة المالية التي تعتّقت أنظمتها أكثر من تخمّر موظفيها، إنّها هي التي تهرق المال هرقاً على رؤوس مشروعات المرضي عنهم، ولا تسأل ماذا يفعلون به، وطالما أنّ "المال السائب يعلّم السرقة" فقد تركت وزارة مال السعودية أموال الناس وثروات الحكومة نهباً ولقمة سائغة للناهبين، فابتداء من نظام الإيداع والصرف العجيب الذي تتبعه الوزارة في تعاملاتها، ومرورا بشروط وآليات المناقصات الحكومية، وانتهاء بالتلاعب المخجل في مواصفات المشروعات وجودتها، تأتي وزارة المالية صنماً واقفاً بصمت لا معنى له إزاء كلّ مصيبة تحيق بالمال العام. لا تظهر وزارة المالية إلاّ مرّة في العام، عند إعلان الميزانيّة، ولا أدري حقيقة ما الدور الحقيقي للوزارة غير دورها الإحصائي؟! فهل لديها تخطيط؟ هل لديها متابعة للصرف والإنفاق؟ هل لديها دراسات وأبحاث حول الهدر المالي في القطاعات الحكومية؟ هل لديها تقارير عن تكاليف مشاريع الباطن التي تكلّف صيانتها وإصلاحاتها خزينة الدولة أضعاف قيمة إنشائها؟ هل تتابع وزارة المالية الحسابات البنكية لتنظيم "الباطنيّة السعوديّة"؟ هل يؤدي وزير المالية ومنسوبو الوزارة حق الأمانة التي بين أيديهم؟ ربما لو تتولى شركة محاسبية أو جهة ما تصريف أمور الدولة المالية لفترة سنة واحدة، على أن يتم تفريغ وزير المالية ومنسوبي وزارته ليعيدوا حسابات الإنفاق الحكومي لعشرين سنة ماضية، ويقارنوا الكلام والأرقام، بين الورق الذي في أيديهم والواقع، فسيكتشفون أن أحد أغنى بلدان العالم تراجع كثيراً بسبب خططهم وآلياتهم وأساليبهم في إدارة المال، وسيكتشفون أن كلّ الأرقام الفلكية التي كانوا يصرفونها لم تذهب لوجهها الصحيح، وإنّما ل "بطنها" الصحيح!، وأنّ الإنفاق المهول قد تبخّر وبقيت منه أطلال تنمية. أخيراً، أتمنى من كل مسؤول في جدة أن يقف اليوم على أقرب مشروع حكومي ويسأل العمّال: "صديق عندك إقامة؟".