ما الفرق الحقيقي والجوهري بين المتعصب السُّني والمتشدّد الشيعي؟! حقاً .. ما الفرق بين السُّني الذي يتوهم أنه من أهل الجنة ومآل غيره النار .. وبين الشيعي الذي يؤمن أنه منتسبٌ للفرقة الناجية التي سيُكب ما عداها "69 فرقة كما قيل" في جهنم؟ لا شيء .. لا شيء إطلاقاً..!! السُّني التكفيري الذي ترتعدُ فرائصهُ غضباً كلما تحدث عن "الروافض" كان سيصبح شيعياً متطرفاً بالقدر ذاته لو وُلد لوالدين شيعيين .. أمّا الشيعيُّ المتعصب الذي يرى مذهبه كاملاً لا تُشيبه شائبةٌ ولا تعيبهُ عائبةٌ كان لو وُلد في بيئة سنية سيرى مذهبه بالعين ذاتها وسيستميت في تنزيهه وإسقاط ما عداه! فالتشدُّد والتزمت والتعصب هي صفات ذاتية هذا ما أحاول قوله مرتبطةٌ بتكوين الشخص الفكري والنفسي لا بانتمائه العقائدي كما يُخال لبعضٍ وقفتُ على هذه الحقيقة الصُلبة عندما انفتحت على العالم وخالطت بيئات مختلفة و"متلاونة".. فوجدت أن هناك ملامح شخصية مشتركة بين المتشدّد المسيحي، والمتعصب الهندوسي واليهودي عنصري النزعة والإسلامي المتطرف سواءً أكان سنياً أم شيعياً.. فكل متشدّد، من كل دين ومذهب وطريقة، يتحدث بمنطق الحقيقة المطلقة ويؤمن بأنه وفريقه مَن يملكون الحقيقة الكاملة وينظرون لمَن يخالفهم بنصف عين .. في النقاش لديهم نمطٌ واحدٌ: ينطلقون من نقطة ليعودوا إليها.. فالواحد من هؤلاء لا ينخرط في حوارات ليوسع مداركه ويُراجع مواقفه ويفتح لنفسه آفاقاً جديدة لا حاشا وكلا بل يناقشك ليصرعك وينقض رأيك ويثبت لك كم أنت مخطئٌ! لهذا فالحوار مع هؤلاء هو "حوار طرشان" لأنهم ببساطة لا يسمعون إلا رجع أصواتهم..! **** شخصياً، عندما سافرت، وعمري لم يتعدَ السابعة عشرة بعد، إلى الكويت لأدرس العلوم السياسية والإعلام سكنتُ في مهجع طالبات يضم 340 فتاة من جنسيات مختلفة.. أفارقةً وعرب؛ خليجيات وأجانب.. كانت الطالبات يتكتلن، حسب الجنسية، ما أن يطأن السكن في اليوم الأول، ثم يتكتلن لاحقاً حسب الانتماء المذهبي، إن كنّ متدينات أو على أساس مناطقي "مَن أتين من الخفجي، من صلالة أو قرى البحرين كنّ يتآلفن ويتعارفن سريعاً" وكانت هناك مجموعات أصغر ترسمها الطبقة أو التخصص أو أسلوب الحياة.. في ذلك الجو المتلون سرعان ما انفصلت عن البحرينيات ووجدت نفسي أنجذبُ للعُمانيات والإفريقيات.. تعرفت هناك لأول مرة على المذهب الأباظي، والطريقة الصوفية، كما اقتربت من طائفة "البهرة"، وهم طائفة مسلمة مسالمة لهم حضور خافت في دبي واليمن وكثير من الأقطار العربية، والبُهِرّة كلمةٌ تعني الوسط من كل شيء "ربما أكلمكم عنهم لاحقا".. في كل المذاهب والطرائق التي عرفتها، سمعت عنها وقرأت وقفت على حقيقة واحدة مؤكدة.. أن كل هؤلاء الناس يحبون الله، ويتخذون له الوسيلة ويتعبدونه، يخافون عقابه ويبتغون مرضاته.. يحاولون/ يجتهدون ليكونوا بشراً أفضل أخلاقياً ليرضى عنهم الله وينعم عليهم بحياة أفضل.. بعضهم لديه قناعاتٌ وأفكارٌ جميلة، وبعض قناعاتهم لم يهضمها عقلي ولم تنفذ من غربال منطقي؛ ولكني وجدت في محاولة فهمهم مفاتيح لفهم أفضل للدين والكون والحياة.. وكم تعجبت وأنا أتلمس النزعة العدائية بين المتعصبات "السُّنة/ والشيعة" تجاه المذهب الآخر رغم كل المساحات المشتركة، في حين لم أجد منهن "وهي مفارقةٌ تستحق التأمل" ذات النفور من الأديان والطرائق الأخرى رغم ما يفصلهم من بون شاسع!! لهذا السبب صرت هدفاً لسهام المتطرفين من المذهبين وما زالت لليوم وتوجس مني المتعصبون من المذهبين بالقدر ذاته.. فأنا "شيعية منشقة ومتقلبة الهوية " بالنسبة للمتعصبين الشيعية" ورافضية وكفى" بالنسبة للمتعصبين السُّنة، وهي بحد ذاتها تهمة في قاموسهم أستحق عليها البُغض .. نعم .. حرمتُ نفسي مبكراً من أمان ودفء الوجود وسط مجموعة، رغم إدراكي التام أن الفرد يحتاج إلى الانضواء تحت مظلة مجموعة متجانسة ليحظى بالقبول والدعم، ولكني لم أستطع أن أجد بذرة التعصب في نفسي .. لا مذهبياً ولا عقائدياً ولا فكريا ولا قومياً حتى..!! وجدت نفسي متعصبةً للخير والحرية والأخلاق وزاهدةً في كل ما سواها من تقسيمات تافهة توهن البشر وتكبل أفكارهم وتنتقص من آدميتهم.. أحب كل المتدينين من كل الأطياف والديانات، وأجد في قربهم راحةً لأني أشعر أن كل مَن وضع الله في قلبه جميلٌ.. ولا أرى أن لأحد محاسبة غيره على فهمه وقراءته للدين.. وأملك قناعة راسخةً أن الله سيحاسب الناس بقدر عقولهم، فلا يُعقل أن تُحاسب جدتي التي توفيت قبل ربع قرن - ولم تكن تعرف نصف ما أعرف عن الحياة والثقافات والأديان - كما سأحاسب أنا.. أعني؛ حسابي سيكون أشد بالتأكيد .. (يتبع) ..