في الوقت الذي انتشرت فيه العادة الإنجليزية برفع القبعة لإظهار الاحترام والمجاملة للآخر, حيث الرأس أشرف الأجزاء من الإنسان وأكملها، كانت أيضا التحية العسكرية التي تندرج تحت هذا البروتوكول, والتي انتشرت بين الشعوب دلالة على احترام الجندي لمرؤوسيه, وتعبيرا عن الانضباط والطاعة! قد تعجب أن من الأقوال التي تفسر نشأتها يعود إلى أواخر القرن السادس عشر, عندما هزم الإنجليز الأسطول الإسباني سنة 1588، حيث أصدر قائد الأسطول الإنجليزي، تملقا للملكة، أمرا غريبا يخص الضباط والبحارة الذين ستوشحهم الملكة إليزابيث في حفل بالمناسبة.. وجاء في هذا الأمر: "نظرا لجمال ملكتنا الفائق، الذي يذهب بالأبصار، على كل جندي عندما يتقدم أمام جلالتها لتقلد الوسام، الذي ستنعم عليه به، أن يضع يده اليمنى على عينيه وقاية لهما". وأميل بدوري لهذا التفسير بنشأة كل تقليد ذكوري! إيمانا مني بأن المرأة وما زالت هي الملهم، ليس للشعراء فقط، بل للعسكريين ومن شابههم! وشارك الرجل الشرقي في إظهار هذا النوع من التقدير للمرأة, فإن عدنا بالتاريخ على سبيل المثال للطوارق (الرجال الملثمين) في شمال إفريقيا، تقول الأسطورة التي يرويها الطوارق عن توارثهم للثام، إن رجال أكبر قبائلهم ارتحلوا بعيدا عن مضاربهم يريدون غرضا ما، فجاء العدو يطلب خيامهم التي لم يبقَ فيها غير النساء والأطفال وكبار السن، فنصح عجوز حكيم النساء أن يرتدين ملابس الرجال ويتعمّمن وبأيديهن السلاح فيظن العدو أنه يواجه الرجال حقا، ففعلن، وقبل التحامهن مع العدو ظهر رجال القبيلة ووقع العدو بين رجالها ونسائها وانكسرت شوكته.. ومنذ ذلك اليوم عهد الرجال على أنفسهم ألا يضعوا اللثام جانبا. أما الجزيرة العربية التي كانت للحضارات مهدا.. وللقبائل مرتعا.. وللحُجاج مقصدا!! من جميع اللغات والأجناس، ما ترك بصمات لا تنسى, ونقش أعرافا لا تمحى.. فشاركت بالنتاج الثقافي فيما يخص اللباس في الخمار, الذي حمل كمّا لا بأس به من الموروث حتى أصبح رمزا للطهر العذري والعفاف الفطري؟؟ وقال به الشاعر: سقط النصيف ولم ترد إسقاطه *** فتناولته واتقتنا باليد ولعل هذا البيت لم يأخذ نصيبه من الشهرة كما أخذت الأبيات التالية: قل للمليحة في الخمار الأسود *** ماذا فعلت بناسك متعبد قد كان شمر للصلاة ثيابه *** حتى وقفت له بباب المسجد ردي عليه صلاته وصيامه *** لا تقتليه بحق دين محمد لما لقائلها الشاعر الوسيم مسكين الدارمي من حظوة عند النساء, لكنه تنسك وانقطع للعبادة , إلى أن أصرّ عليه صديقه التاجر الذي خسر بضاعته من (الخمر) بضم الخاء والميم, وعافتها نساء المدينة لسوادها؟! فضاق صدره واغتم.. وجاءه من يشير عليه بتسويق بضاعته عبر الإعلان، ولن يكون ذلك إلا عن طريق واحد, حين قال له: إن أردت ألا يبقى عندك خمار, وتبيعها كلها بالثمن الذي تريد، اذهب إلى مسكين واعرض عليه قصتك واسأله أن يقول بيتين في الخُمر, الذي وافق بدوره بعد تمنع, فكانت هذه الأبيات التي طارت بها النساء وأقبلن على شرائها. وقد تدارك الدارمي نفسه بالتنسك, وإلا كان أصابه ما أصاب نصر بن حجاج حينما شببت به امرأة ليلا فقالت: هل من سبيل إلى خمر فأشربها *** أم من سبيل إلى نصر بن حجاج! فسمعها عمر رضي الله عنه فقال: "لا أرى معي بالمدينة رجلا تهتف الهواتف في خدورهن، علي بنصر بن حجاج"، فلما جيء به فإذا هو من أحسن الناس وجها وأحسنهم شعرا، فقال عمر رضي الله عنه: "عزيمة من أمير المؤمنين لتأخذن من شعرك"، فأخذ من شعره، فخرج وله وجنتان كأنهما شقتا قمر، فقال له: "اعتم"، فأعتم، فافتتن الناس بعينيه! ثم خطا التاريخ في الجزيرة خطواته نحو التغيير باستبدال العمامة النصيرية بالعقال إلى وقتنا الحاضر، الذي فرض سطوته بعدم التغيير, إلا من رجالات قبيلة شمر, حيث أمالوه نحو اليمين, في تقليد ما زالت تحافظ عليه القبيلة إلى يومنا الحاضر, وتعددت الأسباب في ذكر هذا التميز, حيث قيل إن سبب ميوله أنه في إحدى المعارك الدائرة بين شمر وقبيلة أخرى تشابهها في كل شيء من حيث المظهر, اقترحوا أن يميَّل العقال لتمييز أبناء القبيلة عن عدوهم! أما الرأي الآخر, والذي أميل إليه، وهو الفكرة السائدة، أن الشمري رجل عاشق فيميله إظهارا لحالته العاطفية! وسبب اختياري الذي أجزم أن الرحالة محمد أسد صاحب كتاب (الطريق إلى مكة) سيوافقني عليه! الذي خبر أبناء هذه القبيلة عز المعرفة بعد أن رافقه أحد أبنائها وهو (زيد الشمري) سنوات طويلة بدءا من 1927.. ترافق الاثنان لوحدهما في فيافي وصحارى مقفرة, من الفرات إلى بابل, مرورا بالجزيرة! كان محمد أسد في ثنايا كتابه لا يكتم إعجابه بالشاب الشمري ويصف من طبيعته الشهامة والعاطفية المتقدة بالتقدير للمرأة, وطبيعة بلده حائل, التي وصفها بأنها (صافية غير مخلوطة ككأس من الحليب الطازج)، بل إنه أغرم ليس فقط بناسها! بل أيضا بشوارعها فقال: "كانت شوارعها أكثر نظافة من شوارع أية مدينة في الشرق الأوسط, بل أنظف من أي مدينة أخرى في نجد"!! هذا الإعجاب حدا بمحمد أسد النمساوي أن يصاهر هذه القبيلة, ويرتدي العقال مائلا على طريقة أبناء شمر! فوزية الخليوي