هناك ما يشبه الإجماع على أن انطلاق عاصفة الحزم قبل أيام من إعلان الاتفاق النووي مع إيران كان خطوة استباقية محسوبة للإمساك بتداعيات هذا الاتفاق في الجزيرة العربية والخليج العربي قبل أن تفرض مفاعيلها على دول المنطقة ككل. وهذا يؤكد أن القضية المركزية في الاتفاق هي قضية سياسية قبل أن تكون قضية تقنية. لماذا؟ لأسباب ثلاثة. الأول أن الاتفاق يمنع إيران من تصنيع سلاح نووي لمدة تتراوح بين 10 و15 سنة. وهذه فسحة زمنية كافية تسمح للدول العربية بالاندفاع لتطوير البنية التحتية وامتلاك المعرفة والتكنولوجيا النووية ليس فقط لأغراض سلمية، وإنما أيضاً لامتلاك القدرة على تصنيع سلاح نووي في حال تطلب الأمر ذلك. يمكن للدول العربية الاستفادة من النموذج الياباني بأن تكون عند حافة امتلاك خيار تصنيع السلاح النووي، وهو ما بات يعرف ب «A Nuclear –Threshold State». طبعاً بإمكان السعودية ودول الخليج القبول بدلاً من ذلك بخيار «المظلة النووية» الأميركية. لكن هذا الخيار لم يعد متاحاً كما كان عليه قبل أكثر من ثلاثة عقود، فضلاً عن أنه سيضع قيوداً على حرية الإرادة السياسية للسعودية ودول الخليج، وعلى قدرتها على المناورة خارج إطار الحسابات والمصالح الأميركية. والاستقرار على أي من هذه الخيارات يتطلب قراراً سياسياً قبل أي شيء آخر. السبب الثاني أن التهديد الأخطر الذي تمثله إيران هو مشروعها الطائفي كما يتمثل في مبدأ تحالف الأقليات السياسي، وآلية الميليشيا المذهبية، وهي آلية عسكرية. كلاهما (مبدأ تحالف الأقليات والميليشيا) يشكلان معاً الرافعة الرئيسية للدور الإقليمي لإيران. وخطر هذا المشروع ماثل أمامنا في العراق وسورية، وقبل ذلك في لبنان. وهو خطر إذا ما ترك سيطال بقية الدول، بل سيرتد بخطورته على إيران نفسها. الغريب أنه على رغم ذلك، وعلى رغم أن إيران على ضفاف الخليج العربي إلا أن الدول الخليجية غابت، أو غيبت عن طاولة المفاوضات النووية مع إيران. وهذا الغياب أو التغييب حصل لأسباب ومبررات سياسية إما خليجية، أو أميركية، أو كل هذه مجتمعة. فإذا كان الاتحاد الأوروبي يتمثل في المفاوضات بألمانيا، فلماذا لم يتمثل الخليج، بل العالم العربي بالسعودية مثلاً؟ هذا يعيدنا للمشروع السياسي لإيران، وبرنامجها النووي امتداد له. هذا المشروع مرفوض عربياً، رسمياً وشعبياً. ومع ذلك فالسعودية ومصر باعتبارهما أكبر دولتين متماسكتين في المشرق العربي، لم تتقدما بمشروع بديل يكشف تهافت وخطر المشروع الإيراني، وينسف الطبيعة الطائفية المدمرة له. يشي غياب المشروع العربي بغياب فكرة الإصلاح السياسي. وهذا يضعف الموقف العربي، لأن الصراع مع إيران هو في الأخير، وكما يكشف مشروعها المدمر، صراع حضاري وسياسي. وعندما أستخدم كلمة إيران هنا فإنما أعني نظام «الجمهورية الإسلامية الإيرانية»، وليس المجتمع أو الشعب الإيراني. فهذا النظام الثيوقراطي هو منبع مشروعه الطائفي. من هنا الحاجة لمشروع عربي نقيض لذلك. وهي حاجة تفرضها طبائع الأمور. فتطوير القدرات العسكرية، تقليدية أو نووية، للدول العربية لموازنة إيران، يجب أن يكون ضمن برنامج سياسي اقتصادي ينطلق من رؤية تطوير فكرة الدولة أولاً باعتبارها دولة مدنية جامعة، وثانياً الدفع بها في اتجاه أن تكون دولة ديموقراطية. وذلك كمقابل وبديل لفكرة الدولة الطائفية التي تمثلها إيران. غياب مشروع بهذا المفهوم يعني أن اللجوء لتطوير القدرات العسكرية للدولة سينتهي على الأرجح إلى عسكرة الدولة والمجتمع كما حصل في النموذج البعثي في العراق وسورية. وهو نموذج تضافر مع غياب مشروع عربي ليترك الساحة كما هي الآن للمشروع الإيراني يعيث فيها فساداً وتدميراً. وكل هذا نابع من رؤية سياسية وقرار سياسي. السبب الثالث يكمن في رؤية الرئيس الأميركي باراك أوباما لاتفاق نووي مع إيران كما فصله في حديثه الأحد الماضي إلى صحيفة ال «نيويورك تايمز». ينطلق الرئيس الأميركي من قناعة ترتكز إلى ثلاثة معطيات. الأول أن إيران حققت اختراقاً تكنولوجياً نووياً لم يعد بالإمكان تجاهله. المعطى الثاني أن هناك إجماعاً قومياً إيرانياً حول ضرورة البرنامج النووي. يقول أوباما إن تحقيق الاختراق التكنولوجي مع الإجماع القومي يلغي القوة العسكرية كخيار لوقف البرنامج. لن يؤدي الخيار العسكري في هذه الحالة إلا إلى تأجيل امتلاك إيران السلاح النووي لسنوات محدودة. من هنا استقرّ خيار الرئيس الأميركي على تحقيق التأجيل (ليس المنع) من خلال السياسة والمفاوضات بدلاً من القوة العسكرية. وفي اتفاق الإطار الأخير، سيكون التأجيل لفترة تمتد من 10 إلى 15 سنة كحد أقصى. بعد ذلك تصبح إيران في حل من الاتفاق، ويصبح بإمكانها تصنيع سلاحها النووي. ما هو الخيار بعد انتهاء مدة الاتفاق؟ هنا يأتي المعطى الثالث والمتمثل في أن أميركا تملك التفوق العسكري، وخيار إعادة فرض العقوبات. حيث أشار أوباما إلى أن حجم الإنفاق العسكري الإيراني لا يتجاوز 30 بليون دولار أميركي. في حين أن حجم الإنفاق الأميركي أكثر من 600 بليون دولار. انطلاقاً من ذلك، أضاف أوباما قائلاً أنه «ليس لدى أميركا ما تخشاه من محاولة الحل السياسي للبرنامج النووي الإيراني». تنطوي رؤية أوباما على مغامرة. فهو يرى أن رفع العقوبات عن إيران، وعودتها للنظام الدولي، وتدفق الاستثمارات الأجنبية إليها، ستفضي إلى تغيير جوهري في نظامها السياسي يجعل منه أكثر اهتماماً بالديموقراطية والتنمية الاقتصادية، ورفاهية المواطن بدلاً من النضال والأيديولوجيا. بعبارة أخرى، يأمل أوباما بأن الاتفاق النووي سيؤدي في الأخير إلى تغيير النظام السياسي الإيراني من الداخل، وليس من الخارج كما كانت عليه السياسة الخارجية الأميركية قبل عام 2009. الرئيس هنا يغامر على مجهول بناء، كما يقول هو، على أن موازين القوة تعطيه وتعطي أميركا مساحة للتراجع. لم يأخذ في اعتباره المعطيات والحسابات العربية، وخصوصاً الخليجية. ولا أظن أن اللوم الرئيسي في ذلك يقع على أوباما، بقدر ما أنه يقع على السعودية ودول الخليج، وعلى حلفاء أميركا العرب في شكل عام. وذلك لأن استقرار أوباما على خيار الاتفاق مع إيران على هذا النحو يعني واحداً من أمرين. إما أن العرب لم يقدموا للإدارة رؤية شاملة ومقنعة للوضع الإقليمي وما يعانيه من قلاقل واضطرابات، وانهيارات للدول، ودور السلوك الإيراني في كل ذلك، أو أنهم قدموا هذه الرؤية، لكنه اختار أن يأخذ برؤيته لأنه لا يرى بديلاً آخر في الوضع الراهن للمنطقة، بما في ذلك السلوك السياسي لإيران. وفي كلتا الحالتين فإن السبب الأول والأهم لعدم تناغم موقف أوباما مع الموقف العربي هو سبب سياسي: إما خيار سياسي لرئيس دولة كبرى فرضه على الجميع، أو تقصير سياسي من جانب الحلفاء في تقديم رؤية متكاملة ومقنعة. وأخطر ما في رؤية أوباما للاتفاق هو عدم ربطه بالسلوك السياسي لإيران على رغم اعترافه بهذا السلوك. اختار التركيز على الاتفاق في جانبه التقني، مع الإبقاء على الاختلاف السياسي مع إيران، ومن ثم الإبقاء على العقوبات المرتبطة بسلوكها السياسي، خصوصاً دعمها للإرهاب. أمام الرؤية الأميركية، ما هي الرؤية العربية للاتفاق؟ الحقيقة أنه ليست هناك رؤية عربية واضحة ومتماسكة حتى الآن، لا على مستوى الجامعة العربية، ولا على مستوى الدول بمفردها. وهذا ما يؤكده، كما أشرنا، غياب مشروع عربي. وجود مشروع سياسي اقتصادي للدولة هو أحد عناصر موازين القوة بين الدول، بجانب القدرة العسكرية. وإذا كان أوباما اختار الاتفاق التقني مع إيران، والإبقاء على الاختلاف السياسي معها، فإن هذا يترك مساحة كافية أمام الدول العربية للحركة، خصوصاً السعودية. وما يفرض ضرورة الاستفادة من هذه المساحة أن الاتفاق يشير إلى أن مرحلة الاعتماد شبه الكلي على المظلة الأمنية الأميركية لم يعد خياراً يمكن الاعتماد عليه. أهم تبعات هذه المظلة أنها ساهمت في إبقاء السعودية ودول الخليج العربي خارج معادلة توازنات القوة في المنطقة. ما جعل إيران تستفرد بالمعادلة خصوصاً بعد سقوط النظام العراقي، وانهيار النظام السوري. الآن لم يعد في وسع السعودية البقاء خارج هذه المعادلة. في هذا السياق تحديداً جاءت عاصفة الحزم قبيل إبرام الاتفاق النووي لمنع إيران من توظيفه لفرض دور لها في الجزيرة العربية. وحقيقة أن السعودية تحديداً، بما عرف عنها من هدوء وعدم اندفاع، هي التي تقود تحالف العاصفة، تشير إلى حجم التحدي الذي فرضه الاتفاق، وإلى أن الرياض لن تقبل بدور يعيد استنساخ تجربة العراق وسورية ولبنان في جوارها. تفاجؤ إيران بهذا الموقف يفسر رد الفعل المتشنج لقيادتها. تبدو السعودية وهي تقود التحالف بأنها باتت مقتنعة بأن بقاءها خارج معادلة التوازنات الإقليمية قد استنفد أغراضه، وأن سقوط العراق وسورية تحت النفوذ الإيراني يقتضي دخولها المعادلة مباشرة. وهذا يعني أنه ستكون هناك مقاربة مختلفة للأمن الوطني السعودي الخليجي، ورؤية سياسية مختلفة لما كان عليه الأمر قبل ذلك. السؤال: ما هي هذه الرؤية؟ وما هو المشروع الذي ينتظمها؟ العاصفة هي الخيار الصحيح ليس خليجياً، بل عربياً. هي حرب ضرورة، لأن ترك الحوثيين يستكملون انقلابهم يعني دوراً إيرانياً آخر في ساحة عربية أخرى. ولأنها خيار سياسي لا ينبغي للعاصفة أن تقتصر على بعدها العسكري المباشر. لا بد أن تكون عاصفة سياسية أيضاً يرفدها مشروع بديل للمشروع الإيراني. ضاقت المساحة. سيكون من الضروري تفصيل ذلك لاحقاً. خالد الدخيل نقلاً عن "الحياة"