لا غرابة في أن يكون للطلاق آداب، فالشريعةُ كلُّها آداب وأخلاق، وإنما بُعِث عليه الصلاة والسلام ليتمم مكارم الأخلاق، وكان خُلقُهُ صلوات ربي وسلامه عليه القرآنَ، فكلِمةُ "أنتِ طالق" شاقَّةٌ على لسان الكريم، ووقْعُ كلمة "فلانٌ طلَّق زوجته" شديدٌ على نفوس السامعين، وإنما أباحَه الشرعُ استثناءً، إذا عسُرَ الوفاق بين الزوجين، وتعذَّر الصلحُ بينهما، فالطلاق في هذه الحال خيرٌ للزوجين من البقاء في أُسرةٍ لا أُلْفةَ بينها ولا ترابط، فكان الطلاقُ ارتكاباً لأخفِّ الضررين ودفعاً لأعظم المفسدتين، فأُبيحَ بضوابط وآداب، فمنها ألا يطلِّق قبل التفكُّر والتبصُّر في العواقب، لئلا يُضطرَّ بعدها أنْ يستجدي مَن يُعيد له زوجته، فحرَّم اللهُ أنْ يطلق الرجلُ زوجتَه لأدنى خلاف يقع بينهما، ثم إنّ للزوجين أنْ يتراضيا ويعودا لبيت الزوجية قبل انتهاء العدَّة بلا عقدٍ جديد وبلا مهر، فإنْ اختلفا مرَّة ثانية، وأراد الزوجُ التطليق، فَلْيطلِّقها بالحسنى، كما فعل في الطلقة الأولى، ثم عليه بعد الطلقة الثانية أن يكون على حذر، فإما أنْ يُحسن عشرتها ومعاملتها، وإما أن يطلقها طلقة ثالثة، ولْيَعلم أنها لن تحلَّ له بعد الثالثة. فهذا ليس من المروءة، وليس من صفات الرجال، بل هو إثمٌ ومعصية، ولوعَلِمَت الزوجةُ أنه يُنهي الرابطة الزوجية لخلاف بسيط، لما قَبِلَتْهُ زوجاً، فحين طرق بابَها خاطباً، كان غايةً في التَّوَدُّد لها ولأهلها، فيتزوَّجها بالحسنى، فقبيحٌ به أنْ يطلِّقها بغير الحسنى، وقد جعل اللهُ الطلاقَ بيد الرجل، على أنْ يكون رجلاً بحقّ، فما أكثر المتصلين بي وبغيري، الذين طلَّقوا نساءهم بسببٍ تافه ثم عضَّوا أصابع الندم، وبعضهم أخذ يبكي حسرةً لفراقها، وأقبح من ذلك أن يعلِّق طلاقَها على أمور خارجية، مثل أنْ يقول لضيفه: عليَّ الطلاق إلا أنْ تَقبل بالغداء عندي، فهذا يجب على القاضي تأديبه، بل إنْ اعتاد ذلك فهو ضعيف المروءة، وعلى المحاكم ألا تَقبل شهادتَه، ولو حافظ عليها محافظة الرجال، لَما بكى بكاء النساء، ولكنه عدم الالتزام بأدب الطلاق، وقد قال سيِّدُنا عليُّ رضي الله عنه: (لو أنَّ الناسَ أصابُوا حَدَّ الطلاق، ما ندمَ رجلٌ على امرأةٍ يُطلِّقها) ومما ذكره الفقهاء مِن آداب الطلاق تحريم تطليقها وهي حائض، فالواجب على الزوج أنْ ينتظر إلى أن تَطهُر، فإذا طهرت وهو لايزال على قناعةٍ من تطليقها جازَ له أن يطلِّق قبل أن يَقربَها، فيطلِّقها طلقة واحدة وهو هادئٌ غير غضبان، فهذا هو التسريح بإحسان، فإما أنْ تقبل بها، أو تُفارقها بالحسنى، وبهذا يكون وَقْعُ الطلاق عليها أخفَّ، ولاتطول عليها العدَّة، وأيضا فهذا الأمر يمنع الزوج من اتخاذ قرارٍ متهوِّر، فلعلَّه يعودُ لِعقله خلال هذه المدَّة، أمَّا المبادرة بالتطليق فحماقة، فمن رحمة الله بعباده أنْ جعل الطلاق محدوداً بطلقة واحدة، بمعنى أنه لايجوز للزوج أن يطلِّق زوجته أكثر من طلقة، فإن طلق بأكثر من طلقة، ولو بلفظ واحد، لَزِمَتْهُ الطلقات الثلاثُ كلُّها، ويكون آثماً عاصياً لله ورسوله، بل وعلى القاضي أن يؤدِّبه، فقد طلق رجلٌ امرأتَه ثلاث تطليقات، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيُلعب بكتاب الله وأنا بين أظهرِكم) فكلُّ طلاق حصل والزوجة في غير طهر فهو بدعة، وكذلك الطلاق بالثلاث بدعة، فقد صحَّ عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه كان إذا أُتيَ برجلٍ طلَّق امرأته ثلاثا، ضربَه وأدَّبه، فليت قضاتنا يقتدون بعمر، وقد صحَّ أنَّ رجلاً طلَّق امرأتَه ثلاثا، ثم جاء إلى سيدنا عبد الله بن عباس ليعيدها له، فقال ابنُ عباس: (يَنطلقُ أحدُكم فيركب الأُحموقة، ثم يقول: يا ابن عباس يا ابن عباس! إنَّ الله قال: "وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا" وإنَّك لم تتَّقِ اللهَ، فلا أجدُ لك مخرجا، عصيتَ ربَّك وبانَتْ منكَ امرأتُك) ثم إنّ للزوجين أنْ يتراضيا ويعودا لبيت الزوجية قبل انتهاء العدَّة بلا عقدٍ جديد وبلا مهر، فإنْ اختلفا مرَّة ثانية، وأراد الزوجُ التطليق، فَلْيطلِّقها بالحسنى، كما فعل في الطلقة الأولى، ثم عليه بعد الطلقة الثانية أن يكون على حذر، فإما أنْ يُحسن عشرتها ومعاملتها، وإما أن يطلقها طلقة ثالثة، ولْيَعلم أنها لن تحلَّ له بعد الثالثة، ولا يُمْكِنُه أنْ يراجعها خلال العدَّة، بل ولا الزواج منها مرَّةً أُخرى، إلا أنها إنْ تزوجَت غيرَه، ثم لم تتوافق مع هذا الزوج الثاني فطلَّقها، فحينئذ يجوز لزوجها الأول بعد تطليقها من الثاني أن يخطبها ويتزوجها بعقدٍ جديد، فعلى الرجال أن يتَّقوا الله ولا يتلاعبوا بالطلاق.