عَقب الحرب العالمية الثانية تشكل نظام كوني جديد ، بمعطيات ومفاهيم مغايرة لما سبق ، كنتيجة لحرب عالمية شرسة اختفت من جرائها أنظمة ( نازية وفاشية ) معادية لكل شيء . لذلك انبثقت الخارطة السياسية الحديثة وفق ثلاث مرتكزات أساسية هي ( المعسكر الاشتراكي مقابل المعسكر الرأسمالي ، وبينهما ما كان يعرف بدول العالم الثالث ) . ولكون أمريكا خرجت من الحرب متعافية ، فقد لعبت دوراً بارزاً في تأسيس هذا النظام ومؤسساته الأممية . مما ساعدها على توسيع دائرة نفوذها على المستوى الدولي . وتهيأ لها المجال لقيادة المعسكر الغربي في حروبه ضد كل ما يمت بصلة للمنظومة الاشتراكية على كل المستويات فيما يتعلق ب ( التسابق العسكري والمباريات في المجالات الاقتصادية والفكرية والسياسية والتكنولوجيا ) , وقد استخدم الطرفان من أجل الظفر والتفوق على الآخر ، كل السلاح الممكن ، مهما بلغت مخاطرة ، مع عدم الانجرار إلى مهالك التصادم المسلح بين المعسكرين لما به من مجازفة عظمى . مما وسع أمكانية التفاهمات وأبدى بعض التنازلات بين المعسكرين . وقد رسخت هذه الآلية ( في الجانب الأمريكي ) في إطارها العام ، كمنهج ثابت للسياسة الأمريكية الخارجية في كل حالات تعاطيها مع الأحداث الدولية ، وكل مواقفها تجاه حركات التحرر الوطني ، وفي كل تعاملها ومساهماتها بالأحداث العالمية . وبقيت طوال هذه الفترة على هذا المسار . رغم كل الأخطاء الجسيمة التي شابت واقع السياسة الأمريكية طوال مسيرتها ، ومع كل ما حدث من ويلات صارخة في حقوق الشعوب ومصالحها المشروعة . إنه رغم تداول السلطة السلمي وفق الدستور ، بين الحزبين الرئيسيين الأمريكيين ( الجمهوري والديمقراطي ) فيبقى الخلاف عادة مرتكزا بالأساس ، على الأمور الداخلية المتعلقة بحياة الناس ( الاقتصادية والاجتماعية والصحية وأنواع التأمين ) . بينما السياسة الأمريكية الخارجية يبقى الخلاف بشأنها نسبي ، و يكاد ينحصر بين الحزبين في إطار تقديم أولويات المسائل على بعضها ، وشكل المعالجات والحلول لها . استخدم الطرفان من أجل الظفر والتفوق على الآخر ، كل السلاح الممكن ، مهما بلغت مخاطرة ، مع عدم الانجرار إلى مهالك التصادم المسلح بين المعسكرين لما به من مجازفة عظمى واستكمالاً لمسار التوجهات الأمريكية الخارجية ، فقد بقيت بنفس النمط لاحقا كامتداد لسياستها إبان حقبة الحرب الباردة ، مع أن المنظومة الاشتراكية فقد تبدلت تركيبتها القديمة ، وتغيرت المعتقدات الفكرية والسياسية لدولها وسقطت الكثير من المصطلحات ، وتنوع خطابها السياسي نحو التعددية والديمقراطية الغربية . ومع أن أمريكا أصبحت القطب الوحيد القادر على قيادة العالم عبر قوتها الاقتصادية والعسكرية ، مما سهل عليها فرض أجندتها ومواقفها بالمحافل الدولية ، وجعلها تنال مكتسبات مختلفة في مواقع عديدة من العالم . مع كل ذلك لم يحدث تغير بارز ومؤثر في جوهرها . ومع أن المسيحيين الجدد خلال الفترة الأولى من حكم الرئيس (بوش الابن ) بشروا بشعارات حداثية بنيتها تقوم على مفهوم ( دمقرطة العالم الثالث العصي ومأسسة مجتمعاته ) غير أن هذا الانفتاح سرعان ما فقد بريقه وخمدت جذوة ناره ، لعدم جديتها . باستثناء التغيرات المؤقته التي حدثت بمحيط (روسيا ) الجريحة ، بقصد إلحاق المزيد من الأذى بها . وهكذا يمكن القول أن السياسة الأمريكية تفتقر إلى التجانس مع التغييرات الدولية بما يتناسب مع حجمها . لذا بقيت التعديلات في محاور السياسة الخارجية الأمريكية ، تمضي بخطى وئيدة مفتقرة إلى التجديد المنهجي المتلائم والمتناسب مع ما يحدث عالميا . وأمام هذا العجز ظلت محاورها الأساسية ومنطلقاتها أسيرة للتكتلات داخل أمريكا ، بما تحدده من سبل لصعود السياسيين في تسنم مواقعهم الجديدة ومصالحهم في حقل التشريع والمراكز الحكومية . ولسبر غور هذا النهج من الواقع ، فإن الشواهد على إخفاقاتها متعددة . ومن أجل المباشرة ، فمنطقتنا ( الشرق الأوسط ) وهي البقعة المهمة اقتصاديا ، و لما لها من أهمية في مجال الإستراتيجية العسكرية الأمريكية ، ورغم ما أصابها من تغيرات سياسية هامة في بنيتها مؤخراً ، أفضت إلى تغير في قواعد وأصول اللعبة ، لكونها شملت أنظمة سياسية ذات إيقاع سياسي مؤثر بالمنطقة ، مما قد يفتح المجال أمام تحالفات وقواعد جديدة لمنظومة التفاهمات والتنسيق بين بعض دولها . مع كل هذا بقيت الدبلوماسية الأمريكية تراوح مكانها ، بدون حراك ملموس وإيجابي ، يقنع شعوب المنطقة بعدالتها ورزانتها ، ويعبر عن المقاربة العملية مع كل التغييرات . فالأنانية والنفعية للسياسيين على مستوى التوازنات داخل أمريكا . وبفعل مصادر التأثير المالي والإعلامي المؤثرة في صعود أو أفول نجمهم . تبقى هذه المصادر ، تمثل الدافعية الوحيدة لتوجهاتهم في الحراك تجاه الأطراف المختلفة بالمنطقة . كان آخرها على سبيل المثال ، الخطوة الاستفزازية حين : « استخدمت أمريكا حق النقض في مجلس الأمن ( الفيتو ) ضد المشروع العربي بشأن الاستيطان الإسرائيلي « . لهذا يبقى تأثير ( اللوبي وغيره من التجمعات ) حسب حجمها وقوة فعلها - وهو ما يغيب عنه العرب حاليا - هو المؤثر في العملية السياسية داخل أمريكا على اختلافها ، وهو الموجه الفعلي لنشاط صناع القرار السياسي في أمريكا تجاه ما يحدث بالعالم . [email protected]