لم ألقَ ذاتَكَ في علياءِ رتبتها إلاَّ وأنتَ على الأوتارِ مُنكسِرُ نامتْ على رُكبتيْكَ الأرضُ يحضنُها عودٌ يكاد من الإشفاقِ ينصهرُ أُصغي إليكَ وخيطُ القلبِ تَسْحَبُهُ تنهيدةٌ من أعالي القهرِ تنحدرُ روحي على خرزاتِ اللحنِ عاكفةٌ جَمْعاً، ومسبحةُ الأنغامِ تنتثرُ تشكو وأشكو وفيما بيننَا اتَّصَلَتْ آهاتُنا عبر جسرٍ مَدَّهُ الشَرَرُ اصعَدْ بنا جبلاً نجلو خطيئتَنا واهبطْ بنا وادياً نبكي ونعتذرُ منذ أربعين عاماً وهو يحتضن عوده بقوَّة احتضانه للحياة، ويضفي الألق والرونق على شجرة الموسيقى. منذ أربعين عاماً وحنجرته تتوهَّج بالدفء العاطفي، ومساحتها تتَّسع بحجم الأرض. الصديق العزيز الفنَّان عبد الوهاب الحسن.. هذا الطفلُ (الستِّينِيُّ) الذي أشعل الوقتَ بالموسيقى والألحان.. أعصابه أوتار، وأصابعه أعوادُ قصب.. يعرف بامتياز كيف يحلِّق بنا من ملح الجرح إلى سُكَّرِ الأغنية صعوداً على سلالم اللحن الرفيع. في قلبه طيبةُ الفلاحين في القرى، وفي حنجرته تتجلَّى هويَّة الغناء الأحسائي وكأنَّ حبال صوته منسوجة من ذرَّات هذا التراب العريق. حينما نصغي إليه، تتفتَّح حواسُّنا على مساحاتها الجديدة وآفاقها البعيدة، وتنطلق الأرواح في عناقٍ مؤقَّت مع الحريَّة. حينما نصغي إليه، نؤمن إيمانا مطلقاً بأنَّ الغناءَ تراثٌ معماريٌّ قديم، ليس لعمارة البيوت والأبراج والبنايات، وإنما لعمارة الأرواح وبناء العواطف وتشييد الوجدان الإنساني. منذ أربعين عاماً وهو يحتضن عوده بقوَّة احتضانه للحياة، ويضفي الألق والرونق على شجرة الموسيقى. منذ أربعين عاماً وحنجرته تتوهَّج بالدفء العاطفي، ومساحتها تتَّسع بحجم الأرض، ودفقها الموسيقي يتضاعف جمالاً وجلالاً. عرفته جمعيةُ الثقافة والفنون بالأحساء خلال عقودٍ خلت، وما زالت ذكرياتُه أسماكاً ملوَّنة تعوم في بحيرات الضوء التي تتدفَّق على مسارح الجمعية لياليَ الاحتفالات والمهرجانات. خلال عقودٍ خلت، توشَّحت العرائسُ بأنغامه وتأنَّق العرسانُ بأغنياته فهو الذي أراقَ آلاف الأحاسيس من إناء قلبه على حفلات الزيجات الأحسائية، وطرَّز لياليها بقماشة أنغامه الأنيقة، وألهم المحبِّين كيف يراقصون حبيباتهم على إيقاع الزفاف.. وهو الذي زيَّن مجالس الأصدقاء بأيقونات الطرب الأصيل، وهو الذي أطال أعناق النخيل بما تطاول من ألحانه الشاهقة. رغم كلِّ ذلك، ومنذ أربعين عاماً خلت، لم يجد شرعيَّة لفنِّه وموهبته في مجتمعٍ لا يرى في الفن إلا ضرباً من الفساد. لك الله يا حبيبي (أبا أحمد).. لك الله أيُّها الفردوسُ الذي أضاعَهُ سُكَّانُه.. وحمداً لله على سلامتك من المرض.