الحدث التاريخي مضى وانتهى، كل حدث في هذا الوجود لا يمكن العودة إليه بعد أن ينتهي، ماذا لو قمنا بالتجربة التالية، حادث اصطدام سيارتين، تتلوه مشاجرة بين السائقين، يتخلله حديث طويل لا يخلو من الشتم وبعض اللكمات، وقد حضره عدد لا بأس به من الناس. هل بالإمكان إعادة الحدث، وروايته كما كان! ماذا لو قمنا بتمثيل الحادثة على خشبة المسرح، أو في مسرح الحادثة، بناء على رواية أحد الشهود، الذي حضر الواقعة كلها واستوعبها، واستطاع الاحتفاظ بذاكرته جيدا، هل سترضي هذه الإعادة بقية الشهود!. نحن نروي التاريخ من زاويتنا، كما رأيناه، وفق دوافعنا أيضا وتحيزاتنا القيمية والدينية، وحين يوجد الإنسان توجد معه تحيزاته، لذلك فالتاريخ هو ما قاله الإنسان عن التاريخ وليس هو التاريخ ذاته، الفعل التاريخي مضى ولا يمكن العودة إليه. ها نحن نرى الآن الواقع، عاصرنا الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ونشهد على الحراك السياسي والشبابي في كثير من الدول.. ونقرأ ما يكتبه الإعلام وترصده المقالات وتحلله الكتب.. لكننا لسنا راضين تماما عما يقال.. ربما ليس لأنه كذب.. بل لأن لنا روايتنا الخاصة لما حدث في كتب التاريخ نواجه مشكلة أكبر، وهي أن المؤرخ روى التاريخ بناء على مرويات وليس على مشاهدة.. هناك مسافات انتقل خلالها الحدث.. فبعد الحدث الأصلي جاء الراوي ليروي الحادثة، ثم الرواة ليرووا عنه، ثم جاء المؤرخ ليدونها، وفي هذه المسافات تضيع الحقيقة الكاملة وتبقى ذاتية الراوي والمؤرخ. حين يصف الشاهد حادثة التصادم تلك فإنه سيرويها من زاويته، إنه لا يعرف وليس بإمكانه أن يعرف الدوافع وراء تلك الحادثة، ربما سيشهد أن أحد السائقين كان مسرعا، لكنه لا يدري لماذا كان مسرعا، ولا يدري أحد منا أثر هذه الدوافع على تركيز ومزاج السائق، فالسرعة لأجل إدراك أمه التي سقطت مغشيا عليها ليست كالسرعة من أجل إدراك الدقيقة الأولى من مباراة كرة القدم، وربما لذلك هاج غاضبا بعد وقوع الاصطدام وهو ما لم يكن في حادث اصطدام آخر وقع له قبل سنتين. يبدو التاريخ معقدا جدا، وسبب تعقيده الرئيسي هو وجود الإنسان فيه، ذلك الكائن الذي استعصى على الفهم الفلسفي والعلمي والروحي. نحن نروي التاريخ من زاويتنا، كما رأيناه، وفق دوافعنا أيضا وتحيزاتنا القيمية والدينية، وحين يوجد الإنسان توجد معه تحيزاته، لذلك فالتاريخ هو ما قاله الإنسان عن التاريخ وليس هو التاريخ ذاته، الفعل التاريخي مضى ولا يمكن العودة إليه. ها نحن نرى الآن الواقع، عاصرنا الثورات العربية في تونس ومصر وليبيا واليمن وسوريا، ونشهد على الحراك السياسي والشبابي في كثير من الدول.. ونقرأ ما يكتبه الإعلام وترصده المقالات وتحلله الكتب.. لكننا لسنا راضين تماما عما يقال.. ربما ليس لأنه كذب.. بل لأن لنا روايتنا الخاصة لما حدث.. نستطيع أن نستشعر كيف كتب التاريخ القديم بعقل المؤرخ.. وكيف لو عرض على الناس.. كم سيكون مقدار رضاهم عن هذه الرواية. ربما من المفارقات أن أكثر الأشكال ذاتية في رواية التاريخ تكون في حقيقتها الأكثر موضوعية، أقصد بذلك أن كتابة سيرتنا الذاتية، ومشاهداتنا الخاصة، ورواية التاريخ وهو يتمركز حول قصتنا.. أن أروي مثلا أحداث سنة 2011م، ليس بوصفها تاريخا.. ولكن بوصفها جزءا من حكايتي.. وأن أقول ماذا تعني لي.. وأروي قصتها ضمن قصتي.. أي أن تتضخم وتطغى (الأنا) في سيرتي الذاتية، هنا أنا أعترف مسبقا أني لا أروي التاريخ.. وإنما أروي حكايتي في التاريخ.. وهنا أنا أعترف للقارئ ابتداء بأني لست محايدا ولا موضوعيا.. أنا مليء بالأفكار والتصورات والتحيزات. سيرنا الذاتية لا تصلح أن تكون تاريخا.. ولكن مجموع سيرنا سيكون تاريخا أكثر صدقا وأمانة ودقة من رواية المؤرخ.. في حادثة السيارتين تلك.. ليس الشاهد أو المؤرخ هو الأكثر موضوعية.. ولكن شهادات الناس العفوية والذاتية بمجموعها هي الأكثر موضوعية. أفكر كثيرا فيما أحدثه الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي وانتشار الكاميرا، في تسهيل عملية التوثيق، والتدوين، ورواية الحدث والكلام عن الحدث، بطريقة ذاتية، وبشكل جماعي، كيف سيكون شكل التاريخ للأجيال القادمة.. وكيف ستكون منهجية كتابة التاريخ.. والعودة إليه! لا نستطيع التكهن تماما بما سيجري.. لكني واثق أنه لو تخلص الباحث من آفة الغرق في المعلومات.. واستطاع أن يستخرج صورة كلية من رواية الناس لواقعهم.. بعيدا عما يقوله الإعلام وكتب التاريخ الرسمية.. فإن رواية التاريخ ستكون أكثر صدقا مما سبق. نحن حين نصور، ونكتب، ونقول رأينا ونحكي حكايتنا، ونضعها على الشبكة العنبكوتية.. إننا نتضامن ضد الرواية الرسمية للتاريخ.. ربما لا ندرك ما نفعله الآن.. لكني على ثقة أننا نقوم بعمل يستحق التقدير. @alhasanmm