هناك من يعبر عن الجيل الذي عاش في النصف الأول من القرن الميلادي الماضي بجيل الطيبين أو الأجداد أو الجيل الصبور، وغير ذلك من الأوصاف التي تنم عن اقتناع بكونهم عاصروا صعوبات في الحياة لم يعش أكثرنا أيا منها، وتغلبوا عليها بعزيمة صادقة، وصبر طويل، وإيمان بضرورة استمرارية الحياة ودوران عجلتها. فلم تكن في عصرهم الظروف مواتية لتفكير أحدهم في نفسه، أو فيما يمكن أن تؤول إليه حياته مع الصعاب التي كانوا يواجهونها، والأوجاع البدنية والنفسية التي كانوا يعايشونها في كل مراحل حياتهم المليئة بالصدمات النفسية، والحافلة بشظف العيش وقلة أسباب الرفاه، بل وحتى ضعف وسائل الشكوى التي تخفف عنهم بعض الألم. كنت قد قابلته، وتأملت في وجهه الذي تركت عليه آثار الزمن القاسي بصماتها، وشكلت الصعاب التي واجهها في حياته ملامحه وهيئته ونظراته الحادة، لكنها لا تتأمل القريب، بل كأنها تبحر في الزمن الذي مثلت المخاوف من الأخطار فيه أكثر مما كانت السبل فيه ميسرة للعيش وأسبابه. ولم أستطع حينها القرار، هل أستمر في التأمل لأكتسب خبرة من الواقع المتمثل أمامي في طرق عيش أولئك الرجال، الذين تمثل نجاتهم من المخاطر التي كانوا يواجهونها صدفا وولادة جديدة، أم أبدأ معه الأحاديث، لأرى كيف ينظر إلى حياتهم السابقة بالمقارنة مع حياتنا المعاصرة؟ لكن ظروف الجلسة حسمت الأمر، عندما استدعت طريقة تقديم التمر مع القهوة، من خلال تغطية أواني التمر حفظا لها من التعرض للغبار أو الحشرات، الحديث عن ذلك الزمن القديم الذي كانوا يأكلون فيه التمر، إن وجدوه مليئا بما تجود به الأجواء من التراب والعوالق. وحينها كانوا يشعرون بأنهم أكثر حظا ممن لا يستطيع وجود ما يأكله من الطعام، إذ كان الحصول على الطعام، في أسفارهم على وجه الخصوص، ليس بالأمر الهين، وربما كانت بعض تلك الأسفار مدعاة للتهلكة جوعا أو عطشا أو إنهاكا من التعب. فبدأ ذلك الرجل الرزين يتحدث بثقة مطلقة وذاكرة حديدية لا تغفل التفاصيل عن ذلك الزمن الذي نظنه -نحن الجيل الذي تلاهم ومن جاء بعدنا- حقبة رومانسية مليئة بالأشياء اللطيفة والخفيفة الظل. لكن الابتسامة لم تكن تفارقه، وهو يصف صعوبات جمة كانت تقابلهم في أسفارهم وترحالهم، وربما في حالة استقرارهم قبل وبعد تلك السفرات طلبا للعيش. وقد هالني الكم الهائل من المعلومات التي ذكرها، وما كان يرويه من تاريخ - غير مدون - لأحداث كانت تجري على الحدود. وكل ذلك كان يتم بنظرة إيجابية إلى حقبة حياتهم الماضية، ودون تحسر على أعمارهم التي ضاعت في تلك الصعاب، كما يفعل كثير من المتشائمين في عصرنا الحاضر. فليت بعض الأجيال اللاحقة تأخذ العبرة من صلابة ذلك الجيل، وتشبثه بأسباب الحياة، وعزيمته القوية في اقتحام الصعاب، ليكون ذلك وقودا لهم في بناء الثقة بأنفسهم وبقدراتهم على التأقلم مع الظروف مهما كانت صعوبتها. حيث لا توجد في تاريخ المجتمعات البشرية حياة سهلة، إلا لمن رضوا بأن يكونوا على الهامش، بقبولهم أن يشتغل غيرهم وينتج، بينما هم يستهلكون، ويتذمرون عند أدنى مشكلة تواجههم في الحياة، فمثل هؤلاء «لا ينشد بهم الظهر»!.