هذه ليست المرة الأولى التي يشهد فيها السودان هذه المظاهرات الغاضبة، التي بدأت في 19 ديسمبر من مدينة عطبرة في شمال البلاد، ثم انتشرت إلى العاصمة الخرطوم، ثم سافرت في مدن أخرى تحمل شعارات مطالبة برحيل الرئيس عمر البشير وحكومته، وهذه المرة دعا لها «تجمع المهنيين السودانيين»، الذي يضم أطباء ومعلمين ومحامين، بالإضافة ل«شبكة الصحفيين السودانيين». قبل ثمانية أعوام، كانت أيضا المطالب أخلاقية، وطالب المتظاهرون في العاصمة الخرطوم ومدن سودانية أخرى بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية، وهي أيضا شعارات ما يسمى ب «الربيع العربي»، على سبيل المثال، ارتفاع سعر الخبز والأسعار الأخرى لم تكن من بين تلك المطالب. يمكن للرئيس البشير في ظل تصاعد هذه الاحتجاجات التي تنضم إليها بشكل متزايد، قطاعات أخرى من المجتمع السوداني، أن يحتوي هذه المظاهرات المستمرة لأكثر من شهرين، إذا أعاد إحياء تعهده القديم بعدم الترشح للرئاسة العام المقبل. قبل عامين، قال الرئيس البشير صراحة: إنه لن يقاتل، وإنه سيكون راضياً عن ولايته الحالية، التي تنتهي في العام 2020، وأنه لا يفكر في البقاء في السلطة بعد ذلك التاريخ. إذا قطع الرئيس البشير وعدا بالمغادرة في تاريخ محدد، وتنظيم انتقال للسلطة في فترة فيمكن ذلك أن يغير من المشهد السياسي في السودان، ويحقق للمحتجين الحد الأعلى من مطالبهم. والتغيير الذي يسعى إليه المتظاهرون الغاضبون يجب أن يقابله في المستقبل تشكيل حكومة أخرى قادرة على الوفاء بوعود غير مكتوبة، كما نود أن نقول إن المملكة العربية السعودية والدول المجاورة لها تدعم الاستقرار الاقتصادي في السودان، وتعتقد أن السودان سيعود أقوى. ووسط هذا المشهد الذي يخشى الجميع أن يدفع بالبلاد لمرحلة خطرة، رغم أن المتظاهرين السلميين واجهوا قمعا بحسب ما تناقلته الفضائيات ووسائل التواصل الاجتماعي، إلا أن الرئيس عمر البشير يظل الفاعل الذي بإمكانه نقل هذا المشهد الدامي إلى واقع يحقق مطالب كل السودانيين عبر خلق مواءمة بين مطالب المتظاهرين الذين يتسع مدى فعلهم ورقعة الملتحقين بهم، وما تفرضه ضرورة المحافظة على السودان والنأي به من أن تتحول الاحتجاجات إلى مواجهة دموية عبر ثغرة عادة ما تحدث في مثل هذه المشاهد التي يشهدها السودان، وهي عسكرة الاحتجاجات عبر دخول أطراف خارجية لا تريد الاستقرار لتلك البلاد، عبر تسليح أطراف داخل البلاد فيؤدي ذلك إلى انفجار شامل للوضع عبر مواجهات عسكرية بين طرفي المعادلة. والحال كذلك، يحمد ل«تجمع المهنيين» الذي يضم نخب السودان من أطباء وصحفيين وأساتذة الجامعات، وكذلك الشباب وسكان أحياء العاصمة والولايات، يحمد لهم تأكيدهم على سلمية الاحتجاجات التي دخلت شهرها الثالث دون توقف. الدول العربية وجيران السودان، الذين يراقبون الموقف بإشفاق، لا يفضلون أن تنزلق الأوضاع، بل يرغبون ويعملون على أن يتوصل السودانيون إلى صيغة للحكم تكون مرضيا عنها، تحفظ للسودان سلامة أراضيه وأمنه الداخلي.